أخطر من تطبيع.. وأعظم من مجرد استنكار !
هل هذا الذي يجري هو “تطبيع” حقًا ؟ أم إنَّنا صرنا أمام مواجهة جديدة يسمونها تجاوزًا “تطبيع”، لكنها في حقيقتها تتجاوز ذلك بكثير ؟!
في الجهة المقابلة؛ هل نسمّي الموقف الفلسطيني حيال ما يجري بأنه “رفض واستنكار” ؟ يشبه ما اعتدنا عليه من مواقف الأنظمة والمسؤولين عمومًا ؟ أم هو شيء آخر يقوم به الفلسطينيون حقًا ؟
بالنسبة للسؤال الأول، لاشكّ في أنّ ما تفعله الأنظمة التي طبّعت مع العدو حديثًا قد تجاوز بأميال ما فعله أئمة التطبيع من قبلهم؛ وخاصة من ناحية تكوينهم تحالفات أمنية عميقة مع العدو وذات امتدادات عسكرية واقتصادية واسعة، وكذلك من ناحية استجرار “مواطنيهم” للخوض في تصرفات مشينة لصالح العدو، لم يتوقعها هو نفسه، وخاصة خلال زيارات بعضهم إلى فلسطين المحتلة، وممارسة الطقوس اليهودية مع المستوطنين، وكَيْل المديح الباهظ لما وصفوه بأنه الجيش الأكثر إنسانية ورحمة في العالم، جيش العصابة الصهيونية !
إنّ ما تفعله هذه الدول هو “حرب” حقيقية بكل معنى الكلمة، وهي ليست من صنف ما يسمّى “الحروب الناعمة” أبدًا، بل إنّ “خشونتها” وضراوتها تشمل كل المجالات بما فيها المجال المعرفي والثقافي؛ ولم يبقَ أمام المطبعين إلا إرسال المتطوعين من “مواطنيهم” أو أتباعهم لكي يطلقوا النار على الفلسطينيين حيثما وجدوهم !
وأمَّا بالنسبة إلى الفلسطينيين فإنَّ إطلاق اسم الرفض أو التنديد أو الاستنكار على موقفهم هو إطلاق لا يعبّر عن حقيقة الموقف الفلسطيني، ولا يفي بوصف النتائج الحقيقية المترتبة على هذا الموقف أبدًا.
إنَّ هذا الموقف الفلسطيني، ليس أقلّ من “مقاومة شعبية” حقيقية، في وجه تلك الحرب الدولية المنظّمة التي تجري ضدّهم.
صحيحٌ أنَّ هذه المقاومة الشعبية لا ترقى “عسكريًا” إلى طبيعة العدو الذي أمامها، إلا أنّها مقاومة تتوفر على العناصر الأساسية التي تكفل لها تحقيق النتائج التي يرجوها الشعب الفلسطيني ويتطلّع إلى إنجازها.
أول هذه المقوّمات هو التمسك الصلب بالحقوق، دون أدنى احتمال للمساومة أو التفريط، تمسّكًا يمتزج بالحب الراقي إلى درجة الإيمان؛ وهذا ما يُسقط أولى أهداف حرب التطبيع، التي هي تضييع الحقوق الفلسطينية، عبر التسليم للاحتلال بكل ما يدّعي، وتبنّي الرؤية والرواية الصهيونية لهذا الصراع، ودفع الفلسطينيين نحو اليأس من جدوى المقاومة، نتيجة لتخلي الجميع عنهم.
ثاني هذه المقومات هو الإجماع الفلسطيني على هذا الموقف، باستثناء أولئك القلّة الذين يمارسون التنسيق الأشد خطرًا من التطبيع؛ لأنّه ليس فلسطينيًا أبدًا من يفرّط أو يتخلّى، وهذا الإجماع ينتقل من جيل فلسطيني إلى جيل، حيث يشيب عليه الكبير، ويشبّ عليه الصغير، ويظل الجميع متمسكين بهدف العودة الذي يرونه أقرب إليهم من حبل الوريد.
وثالث المقومات هو الاستعداد غير المتناهي لدى الفلسطيني للتضحية، وعدم توفير أي فرصة للاشتباك الميداني مع العدو، مهما بلغت الأثمان المترتبة، مما يترك الاحتلال في حالة استنفار كامل على كل المستويات، تحسباً من أي حدث أمني قد يتسبب به شاب أو فتاة أو حتى طفل فلسطيني، ويسبب الإرباك لمجتمع الاحتلال كاملًا، كما حصل مع الشاب الذي رمى الزجاجة الحارقة على الجندي الصهيوني منذ أيام، وتلاه الشهيد محمود عمر كميل الذي ارتقى شهيدًا عند باب حطّة بالمسجد الأقصى.
إنها حرب وليست تطبيعًا أبدًا، وإن كان التطبيع رجسًا؛ والفلسطينيون يتصدون لهذه الحرب بما يناسبها، وهذا كفيل بتحقيق الإنجازات التي يناضل الفلسطينيون من أجلها، وفي مقدمتها تحرير الأرض وعودة المهجّرين.
محمد أديب ياسرجي
أمين سر الملتقى العلمائي العالمي من أجل فلسطين