القدس هي القضية
إنْ كان بيننا من يشكُّ في أنَّ القدس هي محور الصراع وجوهره وخلاصته، فلينظر إلى تقييم العدوّ لهذه المسألة، وإلى خطته التي يطبّقها في المدينة المقدَّسة، ومحاولاته الدائمة لتهويد المدينة، والتي ينفذها بكل الوسائل والطرق عبر قواته النظامية وقراراته البلدية وعبر اعتداءات المستوطنين؛ وعلى كل المستويات السياسية والعسكرية والاقتصادية والديموغرافية وغيرها.
ولا يعني هذا الأمر التقليلَ من شأن أي ذرة من تراب فلسطين، فكلّها سواء في مسؤوليتنا عن تحريرها وتطهيرها من رجس الاحتلال؛ ولكن القدس هي العروة الوثقى التي تجمع إليها كل هذه المدن والقرى والوديان والينابيع والجبال والأرض والسماء في فلسطين.
فإذا انحلّت هذه العروة تشتت كلّ شيء، وتفرقت الأنحاء عن بعضها، وفقدت أسماءها وشخصيتها، وذابت جميعها في الرواية الصهيونية.
ومهما حاول المطبّعون أن يبرروا جريمتهم الكبرى في الاعتراف بالكيان الغاصب، فلن يستطيعوا، ومن كان منهم واثقاً من اهتمام العدو بصداقته فليجرّب يومًا أن يضع القدس في برنامجه، أن يرفع صوته ولو بالمطالبة بالقدس الشرقية التي تعتبرها الأمم المتحدة نفسها أرضًا محتلة؛ وإن كنّا نحن لا نفرق هنا بين شرقية وغربية.
ليجرّب هؤلاء أن يقولوا ولو باللسان: إن القدس غير قابلة للتفاوض، وإننا نخيّر “إسرائيل” بين الاحتفاظ بصداقتنا، وبين متابعة خططها لتهويد القدس !
بل وليقولوا أقل من ذلك: إننا نخيرهم بين تطبيع العلاقات معهم وبين سكوتهم على اقتحامات المستوطنين للمسجد الأقصى، فإمّا أن يوقفوا هذه الأعمال، وإما أن نتوقف عن مسيرة التطبيع !
ماذا سيكون جواب “إسرائيل” لهؤلاء الأصدقاء عندها ؟
أعتقد أن الجواب لن يكون في أحسن الأحوال إلا سخرية بهؤلاء المطبّعين، وضحكةً صفراء مجلجلة يطلقها الصهاينة استهزاءً بمن يقول واستخفافاً بما يسمعون.. هذا إن تجرأ أحد هؤلاء المطبعين وجرّب أن يختبر قيمته ومنزلته عند “أصدقائه في إسرائيل”، الذين يدّعي أنه يعمل معهم لمدّ جسور السّلام.
إنّ الصهاينة يعلمون أنهم إن حصلوا على القدس فإنهم بذلك يصلبون المسيح حقيقةً هذه المرة، وأنهم يستولون على الإسراء والمعراج، وأنهم بذلك يجعلون القرآن كتابًا كسائر الكتب، وأنهم يحوزون على الحضارة والتاريخ؛ وإن لم يستطيعوا أخذ القدس فإنهم سيبقون شُذَّاذ الأفاق الذين لا صلة تربطهم بهذه الأرض، وأنهم سريعاً سيعودون – هم أو أبناؤهم – من حيث جاؤوا قبل سنين معدودة.
وبالتالي فإن على جميع أبناء هذه الأمة، من مختلف الأديان والقوميات واللغات، من كان منهم يؤمن بالكرامة والحق والعدل وبالله سبحانه أيضاً، عليهم أن يعطوا للقدس الأهمية التي تستحقها، وأن لا يتهاونوا في تأكيد منزلتها ومكانتها في مكل مناسبة وبكل الأساليب.
وعلى المقاومين الشرفاء الذين يقفون في الخط الأول أمام العدو، أن يعلنوا أن القدس هي كل القضية، وأنّ المساس بها هو الذي سيشعل فتيل المواجهة الكبرى التي لا تنتهي إلا بالتحرير الكامل بإذن الله.
وأمّا بالنسبة إلى الفلسطينيين فإن المطلوب دعمهم بكل الأساليب والأشكال، لأنهم يشكلون الدرع التي لا تزال تحيط بالقدس، وتدرء عنها المزيد والمزيد من الأخطار والويلات.
وما صمود المرابطين من النساء والرجال في الأقصى، وما تمسك أهالي البلدات المحيطة بالقدس ببيوتهم ومزارعهم؛ وما الهبّات المتوالية التي يفجرها الشباب الفلسطيني في وجه قوات الاحتلال؛ إلا دليل على قوة إيمان هذا الشعب بقضيته، وأنه قادر على أن يحقق أهدافه في تحرير الأرض وتحصيل الحقوق، وأنّه مستعدٌ ليبذل كل ما يستلزمه ذلك من التضحيات الجِسام.
وإذ يتوجّه بعض المسلمين في هذه الأيام إلى مكة المكرمة لأداء مناسك الحجّ، فإنّنا نتطلع إلى الرحمن الرحيم لكي يأتي قريبًا ذلك اليوم الذي ينصرف فيه الحجاج من مكة والمدينة لكي يدخلوا المسجد الأقصى بإذن الله آمنين.
محمد أديب ياسرجي
أمين سر الملتقى العلمائي العالمي من أجل فلسطين