مقالات

أهل غزة بين محن الأرض ومنح السماء

بقلم الشيخ محمد الناوي

﴿أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ﴾(سورة آل عمران 142)

ونحن نقرأ قرآننا الكريم، وحتى تتجاوز القراءة حدود اللسان والآذان إلى أعماق العقل والفهم، يجب أن نستشعر في نفوسنا عظمة المتكلم القديم وما اتصف به سرمداً من علم وحكمة ورحمة بخلقه بأن جعل لهم من هذا الكتاب العظيم نوراً يأخذ بأيديهم إلى طريق الصلاح في الدنيا والخلاص في الآخرة…

والقرآن الكريم الذي حكى قصص الأولين إنما ذكرها للعبرة والاعتبار ليقدم للإنسان خلاصة تجارب السابقين التي ثبتها الله أزلاً كقوانين لا تتبدل مهما تبدل الزمن، وعليه قلنا أن القراءة الصحيحة لكلام الخالق يجب أن تكون قراءة مغايرة لكلام المخلوقين.

هذه الآية التي افتتحت باستفهام إنكاري لها العديد من مثيلاتها في القرآن الكريم، والاستفهام الإنكاري يثبت حقيقة بحيث أننا لو قرأنا معنى تلك الآيات بمفهوم المخالفة تبين لنا المعنى المقصود.

هذه الآية تقول لنا وبمفهوم المخالفة أنه (لن يدخل الجنة إلا المجاهدون والصابرون)، إذن هناك شرط مسبق، فقبل طرق أبواب الجنة على كل مؤمن أن لا يضيع وقته، وعليه أن يطرق أبواب الجهاد وأبواب الصبر، ولا سبيل لنيل رضا الخالق إلا عبر هذا السبيل..

القرآن الكريم صرح في أكثر من موضع عن قتل الأنبياء والصالحين والمصلحين من قبل قوى المال والنفوذ والشر في مجتمعاتهم، وأكد على ديمومة هذه الطبيعة العدوانية وحضورها بقوة في كل مراحل التاريخ، والوصية الربانية للمؤمنين هي المقاومة والصبر والثبات على الحق في مواجهة هؤلاء الطغاة، فالقرآن يربي قوة الإرادة في أتباعه، وما نراه من انهزامية في المواقف تجاه ما يجري على المسلمين المضطهدين في غزة ناشىء عن عدم تشبعنا بمعاني القرآن أو لعدم ربطنا للقرآن بواقعنا، وكأن كلام الله ينظم العلاقة بين الخالق والمخلوق بحصرها في عبادات معينة، والحال أنه كتاب حياة وعزة للمؤمنين.

إن أهلنا في غزة وكل من وقف إلى جانبهم بالقول أو بالفعل هم وحدهم من قرأ القرآن بعين العقل، وهم وحدهم من قاموا إلى الله ملبين نداءه، هم وحدهم من فهموا حقيقة الحياة ولعبوا دورهم فيها كما أراد الله وذلك في وقت تخاذل فيه الكثير عن أشرف معركة على امتداد العصور السابقة واللاحقة…

إن حركة العقل وهو يقرأ كلام الله بتمعن ويربط بين أحداث التاريخ وقوانينه يقول لكل مسلم؛ أن الأقصى الذي كان منطلقاً لمعراج أشرف الأنبياء سيدنا محمد عليه وآله وصحبه أفضل الصلاة والسلام وبلغ موقعاً في القرب من رب العالمين لم يبلغه أحد من الأنبياء والملائكة، وعندما تربط بين حادثة المعراج ونهاية الكون الذي جعل الله خواتيم الحياة فيه مرتبطة بتحرير الأقصى وما حوله من الأرض المباركة، ندرك أن العطاء الإلهي الذي منحه الله لرسوله بعد سنوات من الصبر الكبير والمعاناة الكبرى في مكة له ما بعده من المنح الإلهية التي ادخرها الله لعباده المجاهدين الصابرين في آخر الزمان، ولعل طوفان الأقصى هو مفتاح هذا العطاء الرباني، والفاىْزون فيه الذين سيغمرهم هذا العطاء هم أهلنا الصابرون المحتسبون في غزة ومجاهدوها الأبطال وكل من وقف معهم وقدم روحه ودمه ونطق كلمة الحق وأدرك أن جهاد الكلمة وجهاد المغريات وجهاد بذل الروح هو المفتاح الوحيد لعزة عباد الله في الدنيا ومفتاح الولوج إلى الجنة كما أخبر عن ذلك رب العزة…

يقول تعالى: ﴿ أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُم مَّثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِن قَبْلِكُم ۖ مَّسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّىٰ يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَىٰ نَصْرُ اللَّهِ ۗ أَلَا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ﴾(سورة البقرة 214).

إنها إرادة الله، والكيّس من أعد نفسه وتوكل على ربه وعمل صابراً محتسباً وكان ثابتاً على الحق ولم يستوحش الطريق لقلة سالكيه… والعاقبة للمتقين.

مقالات ذات صلة

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى