قيامة غزة

بقلم الشيخ محمد الناوي
﴿ولا تكونوا كالتي نقضت غزلها من بعد قوة أنكاثًا﴾ (النحل: 92)
لا يشك أحد في أن القضية الفلسطينية قد دخلت منعرجًا خطيرًا في ظل تمادي الإجرام الصهيوني، والدعم الأمريكي والغربي المكشوف للعدو، وانبطاح أنظمتنا الرسمية، وصمت منابرنا، وتهاون شعوبنا التي بخلت حتى بالمرابطة في الشوارع والساحات، مقابل سيل الدماء المتدفق من أرض غزة منذ أكثر من ثمانية عشر شهرًا…
ولا ريب أن تصفية القضية الفلسطينية باتت هدفًا معلنًا للعدو، وهو يعمل عليه بكل أدوات القتل والدمار، دون أدنى خجل أمام أعين العالم، ومنظماته الحقوقية، ومجالسه الأمنية، ومحاكمه الجنائية، ليحوّل غزة إلى يباب قاحل.
في المقابل، يرى بعض أبناء جلدتنا أن تصفية القضية الفلسطينية قد تكون بوابة للسلام، وطيًا لصفحة ما يصفونه بـ “الحروب العبثية” بين أنظمتنا و”دولة الاحتلال”. وهم لا يدركون أن ضياع فلسطين هو ضياع للأمة كلها، وبداية لمرحلة جديدة أشد قسوة من “سايكس – بيكو”؛ تلك الاتفاقية التي قسّمتنا إلى دويلات، أما بعد ضياع فلسطين، فسنُقسَّم إلى “كنتونات” عرقية وطائفية متناحرة، تُستخدم أدواتٍ لتحقيق الحلم الصهيوني بإقامة إمبراطوريته من الفرات إلى النيل…
هؤلاء المنهزمون نفسيًا، الذين أخلدوا إلى الأرض وركنوا إلى الدنيا، لم يدركوا – ولن يدركوا – حقيقة الصراع مع العدو، ولم يعوا أن غزة هي الحصن الأخير للأمة، وأن هذا العدو ليس إلا واجهةً للاستكبار العالمي، وأن الصراع اليوم صراع وجود لا صراع حدود.
أما الذين حمّلوا المقاومة الفلسطينية مسؤولية المجازر الجارية في غزة، وطالبوا بتفكيك حركاتها المسلحة، فإنهم لم يقرؤوا حتى التاريخ القريب للعدو؛ فقد نسوا مذابح قبية، وقلقيلية، وكفر قاسم، وخان يونس، والحرم الإبراهيمي، ودير ياسين، وتل الزعتر، وصبرا وشاتيلا، حين استُفرِد بالمدنيين العُزّل. لم يدركوا العقلية الإجرامية لهذا الكيان، القائمة منذ القدم على سفك الدماء، والتي أثبتت العقود الثمانية الماضية أنها لا تعترف بحرمة لآدمي، وتبني كيانها على جماجم الأبرياء، وتجعل من دماء شعوبنا العربية والإسلامية وقودًا لحروبها.
وأمام هذا الهول من الإجرام والخذلان، فإن للمؤمنين موقفًا مغايرًا، ينبع من يقينهم التام بنصر الله لهم، لأنهم أصحاب الحق في هذا الصراع. وإن خسروا جولة في هذه المواجهة الصعبة، فإن الله سيقيّض جيلًا يكون الحسم النهائي على يديه… ﴿وتلك الأيام نداولها بين الناس﴾.
في قرآننا وسُنّة نبينا صلى الله عليه وآله وسلم نجد أن الطغيان إذا بلغ ذروته، كان ذلك مؤذنًا بزواله، كما في الحديث الشريف: “إن الله ليملي للظالم، فإذا أخذه لم يفلته.” وهذا ما يزيد المؤمنين صلابة، رغم الجراح، ويقينًا بحتمية النصر الإلهي.
ومن هنا، فإننا نلمح قرب زوال هذا العدو، الذي دمر مقوّمات الحياة كافة، وبلغ من الفساد أقصاه. ولا شك أن هذا الزوال، وإن كان في حقيقته أمرًا إلهيًا، إلا أنه مرتبط أيضًا بسنن الكون، وعلى رأسها وجوب المقاومة، باعتبارها تكليفًا واختبارًا لأهل الإيمان.
وبعد هذه الشهور الطويلة من ملاحم الصمود والبطولة، فإن من الخسارة العظيمة أن تذهب تلك التضحيات سدى، دون أن تُتَوَّج بنصر كبير يُهدى إلى أرواح الشهداء الذين كتبوا بدمائهم صفحة جديدة من العزة للأمة. ومن هنا، فإن الحضور الجماهيري في الساحات، بشكل متواصل ومتزايد، هو واجب لا مفرّ منه. وهذا الحضور، وإن جاء متأخرًا، نأمل أن يستمر، وأن تتطور أشكال نضاله، حتى يُرغَم العدو على وقف الحرب، ويُثبَّت الفلسطينيون في أرضهم.
﴿وكان حقًا علينا نصرُ المؤمنين﴾