مقالات

غزة… قوّة إرادة في مواجهة الطغيان

بقلم الشيخ محمد الناوي

﴿وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا ٱلْمُرْسَلِينَ ﴿١٧١﴾إِنَّهُمْ لَهُمُ ٱلْمَنصُورُونَ ﴿١٧٢﴾ وَإِنَّ جُندَنَا لَهُمُ ٱلْغَالِبُونَ(الصافات: 171 – 173)

لا تزال غزة تسجل صمودها الأسطوري في وجه العالم المتغطرس، حيث يتحول “المستحيل” بكل الحسابات المادية للحروب إلى “ممكن”، بصبر الرجال، والمدد الغيبي من رب العالمين. فكيف لرقعة جغرافية بحجم غزة أن تتحمّل هذا الكم الهائل من الصواريخ والقنابل، التي حوّلت العمران إلى رماد، والأجساد إلى أشلاء؟ بل لا نزال نرى صبر الغزّاوِيّين يزداد صلابة، والمقاومة عنفوانًا! إنها، باختصار، الأقدار الربانية التي ترسم خيوط الانتصار العظيم والموعود. إذ تشير قواعد اللغة العربية في الآية المذكورة إلى أن النصر متحقّق رغم جبروت الظالمين، فـ”قد” إذا جاءت قبل الفعل الماضي، فإنها تدل على التحقق والإنجاز. كما أن “النصر” و”الغلبة” الواردتين بصيغة اسمية، يشيران إلى الثبات والاستمرار في كلمة الله ووعده لعباده، وأنه لن يتخلف مهما طغت مؤشرات التجبّر عند العدو.

إن من قرأ سنن الله في قرآنه، التي تشير بوضوح إلى أن الظلم إذا بلغ مداه الأقصى، فإنه يعلن عن السقوط الوشيك للظالم، يشعر بأن هناك انقلابًا كونيًا وشيكًا سيحدث، وأننا على مسافة قصيرة من الصبر والصمود، ليتحقق وعد الله لعباده.

كما أن قراءتنا لما سبق من أحداث التاريخ تُظهر أن حجم العطاء الإلهي لعباده يكون بمستوى التضحيات. وعليه، وأمام ما سطّره أهلنا في غزة من تضحيات كبيرة، ومعهم كل المخلصين، فإن يقيننا في ربنا أن عطاياه هذه المرّة تفوق الخيال، وتبشّر بزوال الاحتلال كليًا عن فلسطين، وبعزة كبيرة للمسلمين، وبفرج تاريخي للقبلة الأولى للمسلمين، بتطهيرها كليًا من رجس المحتلين. لقد سطّر أهلنا في غزة أعظم سيرة ومسيرة للتضحية في مواجهة العالم الظالم والمتخاذل، فدفعوا أغلى الأثمان، ولم يهنوا، ولم يستكينوا، ولم يستسلموا، رغم القتل والتجويع. وفي الحقيقة، لا أحد منا يستطيع أن يفهم سر هذا الصبر العظيم، والتحمّل الكبير، طيلة عامين من القصف المتواصل والحصار القاتل. إنهم فعلاً أولئك الذين بشّر بهم المصطفى ﷺ في الحديث الشريف: “لا يضرّهم من خذلهم، وعلى أيديهم يتحقق وعد الآخرة، بتحرير الأقصى، وكل فلسطين.” وفي المقابل، يبقى السؤال الكبير الذي يطرحه كل عاقل ومسؤول: أين المسلمون مما يجري لإخوانهم في غزة؟ لقد اتّحد كل الظالمين على إفنائهم، وتخلّف جلّ المسلمين عن نصرتهم. فكيف نفهم قوة المسيرات الشعبية المناصِرة لغزة في العالم الغربي، وغيابها عن عالمنا الإسلامي؟

وكيف نفهم مقاطعة العديد من الدول غير الإسلامية للكيان، بينما يبقى المطبعون في عالمنا الإسلامي على تطبيعهم؟ وكيف نفهم إغلاق طرق إمدادات العدو من قِبل بعض الغيارى على غزة، في حين يُمدّ العدو برًا وبحرًا بكل ما يحتاجه من قِبل بعض المسلمين؟

وكيف نعجز عن إدخال القليل من الغذاء والدواء إلى غزة؟! إنها فعلاً الحقيقة المؤلمة التي أوجعت أهلنا الصابرين في غزة أكثر مما أوجعهم العدو. مليار ونصف مسلم، بكل إمكاناتهم الهائلة، يقفون عاجزين ومتخاذلين أمام حفنة من اليهود الظالمين. إنه، باختصار، التخلي الكامل عن سنن الله، والسقوط في فخ التهويل والتخويف، إنه حب الدنيا وكراهية الموت. إنها نتائج قرصنة خيارات الشعوب في تقرير مصيرها من قبل قوى الشر. ولعل في هذا الألم الكبير في غزة ما يوقظ الضمير العالمي، ليتخلّص من عبء الاستعباد، ويقلب الطاولة لصالح المظلومين: ﴿وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَىٰ أَمْرِهِ وَلَٰكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَايَعْلَمُونَ﴾ (يوسف: 21)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى