غزة.. من الطوفان إلى صفقة الضياع: تساؤلات

بقلم الشيخ محمد الناوي
﴿وَلَا تَهِنُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ إِن كُنتُمْ مُؤْمِنِينَ﴾ (آل عمران: 139)
هل يعقل بعد كل هذه التضحيات الكبيرة التي قدمتها غزة وكل جبهات الإسناد أن تنتهي هذه الجولة من الصراع بتسليم أرض غزة ورقاب أهلها إلى مجرمين يديرون شؤونها؟ وهل يعقل أن تدور عجلة التاريخ مائة سنة إلى الوراء بسبب هذا الطوفان لتعيش فلسطين انتدابًا جديدًا كما كانت عليه قبل النكبة؟ وهل تسير الأمور عكس السنن الكونية الحتمية أم ثمة إمكانية لتدخل عوامل غيبية خارج حسابات البشر لتُحسم الأمور وفق قانون العدالة الإلهية، إذ لا استقلال لفعل البشر عن إرادة الله وفق عقيدتنا؟
كيف لإنجاز تاريخي كبير بحجم الطوفان، الذي حقق نصرًا استراتيجيًا قلب موازين العالم وجعل مؤسساته وشعوبه تُبصر بعد عقود من العمى الذي صنعته الرواية المزيفة للعدو، أن تكون خواتيمه صفقة إذلال وتنكيل بكل الأمة؟
كيف لكل هذه الدماء العزيزة والدمار الهائل أن تفرز انتكاسة على مستقبل أمة بأكملها وتخدم عدواً مجرماً؟ هل باتت المقاومة للظلم لعنةً على الشعوب المقهورة والأوطان؟
كيف لقلةٍ عزيزة مقاومة أن تقدر على العيش وسط الخذلان والهوان الكبيرين اللذين تلبستهما الأمة؟ هل هي قادرة على تحمل القهر والاستماتة على خط المقاومة أم ستستسلم؟
في قراءة الطوفان، نجد أن قادته شهداء، وفي التاريخ نجد الكثير من القادة والأنبياء والمصلحين قد قدموا أرواحهم قرابين، فتحولت تلك التضحيات عبر الأزمنة إلى عزٍ وحرية وعدالة. فهل دماء شهداء طوفان الأقصى استثناء؟ كلا… فدماء من سار على طريق القدس وكبرياء الأمهات الصابرات أولى أن تثمر عزّةً لهذه الأمة. ومن قراءة الطوفان نلمس بوضوح الانكسار المعنوي الكبير للعدو وهشاشة بنيته، حيث ثبت أنها أهون من بيت العنكبوت. ولولا حبل داعميه الغربيين ومن باع من بني جلدتنا لكفانا رجال غزة شر القتال منذ الأيام الأولى للطوفان.
الهجرة العكسية للمستوطنين في هذين العامين، خصوصًا عندما تعرض كيانهم للقصف، أثبتت أنهم لا تربطهم روابط بهذه الأرض؛ هم مجرد مهاجرين ومغتصبين لأرض ليست لهم، في محيط جغرافي لا يشبههم. خدعهم الكيان المجرم بوهم أرض الميعاد المليئة بعسل وأمن وأمان، فإذا بهم يعيشون داخل ثكنة عسكرية وأسوار عالية وخوف دائم. باختصار: باتوا يدركون جيدًا أن هذه الأرض لا تتسع لهويتين.
ما يعانيه الكيان من انقسامات داخلية عميقة وانهيار اقتصادي هائل وعزلة دولية خانقة يجعل من لجوئه إلى وقف العدوان أمرًا ملحًا وعاجلًا، لكن سيرته السوداء تُعلّمنا أنه عدو غادر ومجرم وقاتل ولا يلتزم بأي ميثاق. هكذا أخبرنا ربنا وحذرنا منهم.
وبين طوفان أكتوبر 2023 وهجوم (تيت) الفيتنامي عام 1968 على الاحتلال الأمريكي، الذي كان سببًا أساسيًا لرحيلهم بعد خمس سنوات، وجوه شبه كبيرة لمن يفقه معنى الحرية والكرامة.
ثقتنا بالله كبيرة بأن البلدة التي باتت خاوية على عروشها—غزة—سيحييها الله وستعمر، وأن القلوب المكسورة التي فقدت أحبتها ستجبر، وسيمنحها الله القوة لتستمر في الحياة، وسينجب الطوفان جيلاً أشد بأسًا يتحقق على يديه وعد الآخرة.