مقالات

غزة.. وحضور الصادقين

بقلم الشيخ محمد الناوي

﴿ إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوا وَّالَّذِينَ هُم مُّحْسِنُونَ﴾ (النحل 128)

في سنن التدافع بين الحق والباطل، يخبرنا القرآن الكريم عن أحوال الصادقين في صبرهم وثباتهم وتضحياتهم، وعن الظالمين في عنادهم واستكبارهم وإجرامهم، ويخبرنا أيضًا عن أحوال فريقٍ من الناس مذبذبين لا إلى هؤلاء ولا إلى هؤلاء، يميلون مع مصالحهم حيث تميل. وقد سجّل هذا الفريق حضوره عبر الأزمنة ضمن المنطقة الرمادية، ليشكّل عبئًا على أهل الصدق، وليُحدث نوعًا من عدم اليقين لدى عامة الناس، مما يتسبب في تشتيت الجهود وضبابية الرؤية وتأخير الحسم لصالح المُحقّين في صراعهم مع المُبطلين.

وفي غزة، وما جرى ويجري عليها منذ الطوفان وما قبله، تجلّى الحضور الباهت لأصحاب المنطقة الرمادية من شعوب ونخب؛ فلم ترضَ بالظلم المسلّط على أهلنا في غزة، ولم ترضَ أيضًا بعملية الطوفان واعتبرتها مجازفة خاطئة.. فغابت هذه الفئة عن ميادين دعم الحق الفلسطيني وعن ميادين الإنكار لجرائم العدو، وعاشت السلبية المميتة تجاه ما يحدث، وكأن الأمر لا يعنيها، وانشغلت بأمور هي خلاف أولويات المرحلة الحرجة والمصيرية التي تعيشها الأمة.

وقد شكّل الوقوف في المنطقة الرمادية، وخاصة من قبل حواضرنا الدينية، عامل تشتت في العقل الجمعي للأمة، وانعكس واقعًا سلبيًا في فراغ الساحات التي لا يشك أحد في دورها الكبير في التغيير. وانحصر دور العلماء عمومًا تجاه فلسطين في تصريحات محدودة وخطبٍ جمُعية باردة لا علاقة لها بالواقع المؤلم في فلسطين. وأقصى ما قدمته حواضرنا طيلة الطوفان بضع كلمات من الدعاء بنصرة غزة. وهذا ما يدعونا إلى مراجعة نقدية عميقة لهذا الخلل الكبير والخطر الأكبر على مستقبل أمة بكاملها، لأن المعركة بالأساس هي معركة عقيدة ووعي ووجود.

في المقابل، شهدت عواصم العالم الغربي انقلابًا وتحولًا جذريًا في الوعي بالقضية بعد تزييفٍ لعقود، حيث حضرت الإنسانية في مبادئها الجامعة، وشكّلت ضغطًا كبيرًا على مُشغّلي الحروب. ولولا هذا الحضور الغربي في الميادين، لما هدأت الحرب؛ فقد شكّل الحضور الميداني أسلوبًا ضاغطًا وفعّالًا على العديد من الحكومات الغربية الداعمة لحرب الإبادة، وشكّل تهديدًا حقيقيًا على مستقبل سياساتها المنحازة كليًا للاحتلال، وبات العدو محاصرًا ومنبوذًا على كل المنابر الدولية. هذا التحوّل الكبير في الوعي خدم القضية المركزية للمسلمين، وانتشلها من طور النسيان المتعمّد والمُقنّن إلى الاعتراف الشعبي والرسمي، حيث كنا ولا نزال نسمع الأصوات من قلب العواصم الغربية: “من النهر إلى البحر، فلسطين حرة”، بالتزامن مع اعتراف العديد من الدول بحق الفلسطينيين في بناء دولتهم المستقلة.

إنّ تحرير فلسطين كاملة متحقق ولن يتخلّف، بدعم الصادقين ورغمًا عن إرجاف المرجفين. وإنّ العالم قادم على زمن القصاص من كل الظالمين، وإنّ التغيرات الكونية تسير وفق علم الله وحكمته وإرادته، وتصبّ كلها لصالح المُحقّين، حتى وإن كان ظاهرها يوحي بعكس ذلك تمامًا.

وإنّ المعيّة مع أهل القضية تكون متحققة عندما يكون مفهوم التقوى هو دفع الظلم عن المظلومين، وأن تسجّل حضورك في كل الميادين معريًا لجرائم الاحتلال، شارحًا للمأساة الإنسانية في فلسطين، وداعمًا لكل الإجراءات التي تسرّع في إعادة دورة الحياة كاملة إلى غزة، وأن تجرّ العدو ومجرمي الحرب إلى المحاسبة، وأن تكون موقنًا من قول الله تعالى: ﴿وَلَا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَبَقُوا ۚ إِنَّهُمْ لَا يُعْجِزُونَ﴾ (الأنفال 59).

مقالات ذات صلة

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى