مقالات

ذكرى تحويل القبلة يزف بشائر التحرير للمسجد الأقصى من إخوان القردة والخنازير

قال تعالى: “سَيَقُولُ السُّفَهَاءُ مِنَ النَّاسِ مَا وَلَّاهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كَانُوا عَلَيْهَا قُلْ لِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ “. (البقرة: 142)ذكرى تحويل القبلة يزف بشائر التحرير للمسجد الأقصى من إخوان القردة والخنازير

من المرجح أن تحويل القبلة من المسجد الأقصى إلى المسجد الحرام أولِ بيت وضع للناس كان في شعبان من العام الثاني للهجرة، بعد أكثر من ستةَ عشرَ شهراً من الهجرة إلى المدينة المنورة.

وقد كان التوجه إلى المسجد الأقصى لِحِكَمٍ عديدة، منها اختبار إيمان المسلمين الأولين، فمن قَوِيَ إيمانُه تواجَّه حيثُ يوجِّهه ربُّه، إذْ لله المشرق والمغرب، فأينما تولوا فثَمَّ وجه الله، ومَنْ ضَعُفَ يقينه، وكان مرتبطاً بالأرض والحَرَم انقلب على عقبيه، سواء كان هذا بالردة عن الدين، أو بالعزوف عن واجب الهجرة، وأمثال هؤلاء لا يصلحون أن يكونوا ممن ينصرون الله ورسوله، إذْ لو خرجوا فيكم ما زادوكم إلا خبالاً، فأراد الله العليم الحكيم بالتوجه إلى بيت المقدس أن يحول بينهم وبين الهجرة، وقد أكَّد هذا قوله سبحانه: “وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنْتَ عَلَيْهَا إِلَّا لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّنْ يَنْقَلِبُ عَلَى عَقِبَيْهِ وَإِنْ كَانَتْ لَكَبِيرَةً إِلَّا عَلَى الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ (البقرة: 143)

ومن تلك الحكم أيضاً أن يتألف به قلوب طوائف اليهود في المدينة المنورة، حين يتجه إلى قبلتهم لإشعارهم بأن شريعة الإسلام تعظِّم بالمسجد الأقصى؛ لعلهم يُقْبِلون على هذا الدين، ويَقْبَلون أن يكونوا أتباعاً لخاتم النبيين، فقد عرفوا في التوراة أنه النبيُّ الأميُّ الذي يضع عنهم إصرهم، والأغلال التي كانت عليهم، كما بشَّرهم به سيدنا عيسى u، وأن الرسَول الذي يأتي من بعده اسمه أحمد.

غير أن اليهود قد غلبت عليهم عنصريتهم، فكفروا به بغياً وحسداً أن ينِّزَل الله من فضله على من يشاء من عباده، وقالوا: هاهو محمد قد اتَّبع قبلتنا، ويوشك أن يتبع ديننا، فضاقت نفس النبي r بهم ذرعاً، وطفق يقلِّب وجهه في السماء مؤملاً أن ينزل الوحي بالتوجه إلى البيت العتيق، وقد كان، وجاء هذا في شهر شعبان في العام الثاني من الهجرة.

ومن الجدير بالذكر أن الله عزوجل قد ربط قلوب السابقين الأولين من المهاجرين بالمسجد الأقصى من تاريخ الإسراء إليه، والعروج منه إلى السموات العُلا، ثم بائتمام جميع الأنبياء والمرسلين بخاتم النبيين فيه؛ لتقوم الحجة على جميع الأقوام بأنهم إن كانوا صادقين في الإيمان بأنبيائهم فما عليهم إلا أن يقتدوا بهم في اتباع هذا الدين، وبيعة سيد المرسلين، ومن يأتي بعده من الخلفاء الراشدين، والأئمة المهديِّين.

وقد حرص النبيُّ عليه الصلاة والسلام من ذلك اليوم الذي رأى في ليلته من آيات ربِّه الكبرى أن يبحث عن قاعدة يقيم فيها سلطان الإسلام ودولة الخلافة، ويكون أهلها أنصار الله ورسوله، حيث قَيَّضَ الله له أهل يثرب، فهاجر إليهم، ومكث خمس سنين حتى استيأس المشركون بعد غزوة الأحزاب أن يغلبوا هذا الدين، وأولياءَه الميامين، وما كاد النبي r يُخرج قريشاً من الصدام المسلح معه بصلح الحديبية حتى تطلَّع لفتح الشام، وتحرير الأقصى، فأزاح يهود خيبر من طريقه بعد أربعة أشهر من تاريخ ذلك الصلح، وحاول فتح الشام دعوياً بكتابه الذي بعثه إلى هرقل، غير أن عامله على بُصرى قبض على حامل الكتاب الحارث بن عمير الأزدي، وضرب عنقه على غير ما جرى عليه العرف الدولي بعدم التعرض للسفراء؛ بل بإجارتهم، ثم بتبليغهم مأمنهم، وكان ذلك سبباً في غزوة مؤتة، ثم قاد النبيُّ r معركة تبوك، فنصره الله عزوجل على الروم بالرعب مسيرة شهر في ساعة العسرة، ثم عقد اللواء لأسامة بن زيد لغزو فلسطين، والنيل من الروم، لكنَّ النبيَّ r لم تَقَرَّ عينه برؤية ذلك النصر وهو في الأرض؛ فقد قبضه الله إليه في مقعد صدق عند مليك مقتدر، وأمضى هذه الغزوة من بعده خليفته أبو بكر t رغم التحديات التي استجدَّتْ، وهي ردة أكثر القبائل العربية الذين دخلوا في دين الله أفواجاً بعد فرار الروم بني الأصفر من وجوهنا في غزوة تبوك، على الرغم من كونهم القوة العظمى في الأرض، بعد أن غلبوا قوة فارس في بضع سنين.

وما كاد أبو بكر يفرغ من حروب الردة حتى وَجَّهَ الجيوش لفتح الشام، وقد عاجلته المنية، فلم تكتحل عيناه برؤية الأقصى محرراً، وقد أكمل هذه الفريضة من بعده الخليفة الثاني الفاروق عمر t، واستطاع في معركة اليرموك أن يقوِّضَ الإمبراطورية الرومانية بعد سبعة قرون من الإجرام في الشام وما حولها، ثم إنه t قد جاء بنفسه بعد أربعة أشهر؛ ليتسلَّم مفاتيح بيت المقدس، وليعيد تطهير المسجد الأقصى للعاكفين والبادين، والرُّكَّع السُّجود.

والعجيب أن ذلك قد تحقَّقَ في العام الخامسَ عشرَ، أو السادس عشر للهجرة؛ أيْ أن المدة الزمنية بينه وبين ليلة الإسراء والمعراج كانت دون ثماني عشرة سنة، ولا غرابة فإن الله عزَّوجلَّ ينشئ الإنسان خَلْقاً آخر بالإيمان والقرآن؛ فيصبح المؤمنون بذلك عباداً لله أُولي بأسٍ شديد، ويصيرون جنوداً لله لا قِبَلَ لعدوِّهم بهم؛ بل يخرجونه منها أذلة وهم صاغرون.

وقد ظلَّ المسلمون خمسة قرون وهم مستمسكون بالمسجد الأقصى، ومستمرون في الفتوحات، حتى بلغوا مشارق الأرض ومغاربها، ثم أصابهم الوَهْنُ، وكَثُرَ الخبث، فزحف الصليبيون ورثة الروم من جديد، وانتزعوا الأقصى من أيدينا، وأراقوا دماء سبعين ألفاً من إخواننا الذين سبقونا بالإيمان في ساحاته، وجعلوه إصطبلاً لخيولهم، وعلى رأس تسعة عقود كان آل زنكي، ثم الأيوبيون، قد أحيوا هذا الدين تارة أخرى، وصنعوا به عباداً لله أُولي بأس شديد، فكسروا شوكة الصليبيين في معركة (حطين) ثم دخلوا المسجد الأقصى كما دخله الفاتحون أول مرة، وعاد مطهراً للركع السجود.

وحين زحف المغول والتتر على العالم الإسلامي، ووصلوا بغداد عام 656هـ، وذبحوا معظم أهلها، ودمَّروا حضارتها، ثم زحفوا إلى الشام، وقتلوا فيها مئاتِ الألوف ولم يبق إلا أن يسيطروا على فلسطين في طريقهم إلى مصر، وكان ذلك في زمن هيمنة المماليك عليها، وقد استقرَّ رأي أولئك المماليك أن يخرجوا لملاقاة المغول على أرض فلسطين، وقد هزموهم بإذن الله في معركة (عين جالوت) عام 658 هـ؛ أي أن الاحتلال التتري لم يزد على ثلاث سنين، وهذه من معجزات الإسلام حين نأخذ الكتاب بقوة، ونذكر ما فيه، فإنكم إن تنصروا الله ينصركم، ويثبت أقدامكم، ولينصرَنَّ الله من ينصره.

وإذا كان المغول قد هُزِموا على أرض فلسطين في ثلاث سنين؛ فإن الفرنسيين قد أُخِذوا بهذه السُّنَّة الربانية في ثلاث سنين، ذلك أن نابليون الملعون، كما ساركوزي اليوم، ومعظم زعماء فرنسا والغرب، كان قد غزا مصر في عام 1798م، ثم دفن أحلامه تحت أسوار عكا حين عجز عن فتحها عام 1801م، فقعد مذموماً مخذولاً، ثم رجع عنها مذؤوماً مدحوراً، أو ملوماً مدحوراً كحاله وحال أمثاله حين يُلْقى في جهنم، والعياذ بالله تعالى.

وبعد أكثر من قرن، وفي عام 1917م بالتحديد كان الإنجليز قد تواطؤوا مع الفرنسيين لاقتسام العالم الإسلامي، وتمزيقه إلى أكثر من عشرين كيان، حيث رسموا حدود تلك الممالك المسماة بالدول العربية بمكر كبير، وكان من نتيجة خطة (سايكس بيكو) أن انقسمت الأمة إلى شعوب بلا ثروات، وثروات بلا شعوب، مع إبقاء الحدود هلامية بين أكثر هذه الكيانات، لتكون مغريةً بالنزاعات على المناطق التي تركت عمداً برزخاً بينها.

قد كانت فلسطين من نصيب الإنجليز، فأرادوا أن يستريحوا من الفساد اليهودي داخل أوروبا، وأن يجندوهم في الصراع مع الأمة الإسلامية، وقد انتهزوا أسطورة أرض الميعاد عندهم، فكان وعد بلفور الذي منحهم الإنجليز بموجبه وطناً قومياً في فلسطين، وقد احتاج تنفيذ هذه الجريمة ثلاثة عقود، غير أنهم لم يتمكنوا من اغتصاب المسجد الأقصى إلا بعد عشرين سنة من تاريخ قرار تقسيم فلسطين، وإعلان قيام كيان يهودي على أرض فلسطين، أيْ بعد نصف قرن من تاريخ وعد بلفور، وما درى اليهود أنهم يجيئون لحتفهم المسمى في القرآن بوعد الآخرة؛ حيثُ يصنعنا الله جلَّ جلاله على عينه؛ لنكون عباداً له أُولي بأس شديد، ولِيحقِّقَ بنا سُنَّته في المفسدين، ولكنْ عبر ثلاث مراحل، حيثُ يمكننا أولاً من إساءة وجوههم، وفد تحقق هذا في هروبهم من غزة هم وإخوانهم أذناب الفوضى والفلتان، حيثُ لحقت بهم المعرة والخزي، واسوداد الوجوه، وهم يهربون من جنوب فلسطين، كما فَرُّوا من جنوب لبنان من قبل عام 2000م، ثم عجزوا عن الرجوع إلى القطاع في ثلاث معارك متلاحقة في أقلَّ من ست سنين، حيث معركة الفرقان آخر عام 2008م، وأول عام 2009م في عدوان ناف عن ثلاثة أسابيع، ثم كانت حجارة السجيل عام 2012م، وقد سخَّرها ربُّنا عليهم سبع ليالٍ وثمانية أيام حسوماً، وقَصفتِ المقاومة لأول مرة عاصمة الكيان، والمستوطنات الصهيونية في غربي القدس، وفي عام 2014م وقعت معركة العصف المأكول، وقد زادت عن سبعة أسابيع، ومن الجدير بالذكر أنهم حاولوا الرجوع إلى جنوب لبنان عام 2006م، فانقبلوا خاسرين بعد ثلاثة وثلاثين يوماً من العدوان.

وأما المرحلة الثانية فهي التي يمكننا القوي العزيز فيها من دخول المسجد الأقصى، وتحريره، وقد بدأت هذه الحقبة بمعركة سيف القدس عام 2021م، واستمرت أحدَ عشر يوماً، وكانت رشقة الصواريخ فيها تزيد على مائة صاروخ، وقد طالت معظم أنحاء فلسطين، لا سيما صاروخ العياش الذي قصف مطار ريمون، ومداه يصل إلى مسافة 250 كيلومتر.

إن انتفاضة الضفة الغربية والقدس في هذه الأيام، لا سيما العمليات الفردية بإطلاق النار، أو بالطعن، والدهس، تستنسخ تجربة غزة، ويوشك أن يولِّيَ الاحتلال مدبراً، ولا يعقب، ولعل عنجهية اليمين المتعصب المشارك في الحكومة الصهيونية يعجل بهذا المصير المحتوم عبر السياسات الخرقاء التي ينتهجها في حق الأسرى والمسرى، وعموم الضفة أرضاً وشعباً، ولم يسلم منها إخواننا في مناطق (48) كذلك.

إنني جدُّ متفائل؛ بل متيقن أن دخولنا المسجد الأقصى آمنين أصبح قاب قوسين أو أدنى، ولن تتراخى المرحلة الثالثة والأخيرة التي نُتَبِّرُ فيها كل مظاهر العلوِّ الصهيوني تتبيراً، وأراه قريباً في بضع سنين إن شاء الله ربُّ العالمين.

ومتى كنسنا هذا الاحتلال فقد اجْتُثَّتْ شجرته الخبيثة من فوق أرض فلسطين، ولا عودة له إليها، باستثناء السبعين ألفاً الذين يجيئون مع الدجَّال من يهود أصفهان؛ لتُبادَ شأفتهم، حتى لو اختبؤوا خلف الشجر والحجر، فإن الله الذي أنطق كلَّ شيء سوف ينطق ذاك الشجر، وذلك الحجر، فيقول: يا مسلم، يا عبد الله: هذا يهودي خلفي تعالى فاقتله، إلا ما كان من الغرقد، فإنه يتستر على من يختبئ فيه؛ لأنه من شجر اليهود.

ولا تحسبن الله غافلاً عما يعمل الظالمون، ولا تحسبن الله مخلف وعده رسله، ولا يحسبن الذين كفروا سبقوا، كما لا تحسبن الذين كفروا معجزين في الأرض؛ فإن حزب الله هم الغالبون، وكان حقاً عليه نصرُ المؤمنين.

والله وحده أعلى وأعلم

وصلى الله على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه وسلم

بقلم الدكتور يونس الأسطل
عضو رابطة علماء فلسطين وعضو البرلمان الفلسطيني

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى