مقالات

كم من فئة قليلة غلبت فئة كثيرة

الأستاذ الدكتور الشيخ علاء الدين زعتري

إن المعنويات العالية، والقوة الإيمانية هي التي تكتسح التفوق المادي للعدو، وهي التي قادت الأولين من المؤمنين إلى النصر، وتقود أهل فلسطين اليوم إلى الانتصار القريب، وهي السنة الكونية لغلبة أهل الإيمان.

فليس في قاموس الجهاد والمقاومة فرار من الرزايا، بل المنية هي في غاية الأمنية، والغلبة للمؤمنين، وهي تأتي بإذن الله رب العالمين.

لسان حال كل مقاوم ومجاهد: إن عشنا عشنا سعداء، وإن متنا متنا شهداء؛ ألا إن حزب الله هم الغالبون؛ فالمعارك يفوز فيها الأقدر على الصبر.

ولقد ذكر القرآن الكريم قصة انتصار أهل الإيمان (بفعل سلاح نبي الله داود عليه السلام) ضمن جيش (الملك طالوت).

فالمؤمنون الذين عبروا النهر كانوا فريقين:

منهم من يكره الموت، ويُغَلِّب الخوف والجزع على طبعه، وهم الذين قالوا: (لا طاقة لنا).

ومنهم مَن كان شجاعاً قوي القلب، رابط الجأش؛ وهم الذين أجابوا بقولهم: {‌كَمْ ‌مِنْ ‌فِئَةٍ ‌قَلِيلَةٍ ‌غَلَبَتْ ‌فِئَةً ‌كَثِيرَةً}.

أو أنهم لما شاهدوا قلة عسكرهم، قال بعضهم: لا طاقة لنا اليوم؛ فلا بد أن نوطن أنفسنا للقتل. وقال الآخرون: بل نرجو من الله الفتح والظفر.

فكأن غرض الأولين الترغيب في الشهادة والفوز بالجنة، وغرض الآخرين التحريض على رجاء الفتح والظَفَر.

وكلا الغرضين محمود.

وفي القصة تفاصيل صورة من التصفيات لنفوس البشر؛ كي ندرك الحقيقة:

إن النفس البشرية حين تُواجَه بالحكم والقضية والمسألة نظرياً يكون لها موقف.

وحين تُواجَه النفس البشرية بالحكم والقضية والمسألة نفسها تطبيقياً يكون لها موقف ولو بالكلام.

وحين تُواجَه النفس البشرية بالحكم والقضية والمسألة نفسها فعلياً وواقعياً يكون لها موقف مختلف.

وهكذا تكون التربية الجهادية، في صور المقاومة المستمرة، ارتقاء وارتقاء.

واعلموا أن النفس البشرية هي بعينها النفس البشرية، وستتعرض للذبذبة حين تواجه الحكم من النظرية للتطبيق إلى التنفيذ الواقعي.

فالله يريد أن يربي المؤمنين على اليقين أنه جل وعلا هو الذي يهزِم الأعداء مهما كانت قوتهم، ومهما بلغت أعدادهم، وهو الذي يَغْلِب وينتصر وينصر المؤمنين؛ مصداقاً لقوله الحق: {قَاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ الله بِأَيْدِيكُمْ} [التوبة: 14] .

وعلى كل حال: فقليل من قليل من قليل؛ هم الذين ينصرهم الله.

إن القرآن لا يدعو إلى الإخلاد في الأرض، ولا إلى الخمول ولا الجمود، ولا إلى التأخر ولا التخلف، وإنما يدعو إلى القوة والكفاح، والتقدم والنجاح، والازدهار في جميع الميادين.

وقد يقول قائل: مسألة القتال والحرب قضية مادية؛ تحتاج إلى عَدد وعُدد  (عتاد).

ويكون الجواب الإيماني: إن الحق قد طالبنا بأن نُعِدَّ ما نستطيعه؛ لا فوق ما نستطيعه.

وهو سبحانه وتعالى عنده من الجند الخفيّ الدقيق، وبه يتحقق النصر، قال تعالى: {سَأُلْقِي فِي قُلُوبِ الذين كَفَرُواْ الرعب} [الأنفال: 12]

وما دام الله يلقي الرعب في قلوب الأعداء؛ فالمسألة تنتهي بنصر المؤمنين؛ ما دام استعدادهم هو قدرة الاستطاعة، بغض النظر عن عددهم، ولا تفلح أمامهم عُدد أو عَدَد.

ويكون التوكل على الله بعد أن يُعِدَّ المؤمن ما يستطيعه، وهو: الاستكمال الفَعَّال للنصر.

إن لغة الحسابات الإيمانية غير لغة الحسابات المادية؛ الفئة القليلة تكون قلَّتُها في الأفراد والعَتَاد وكلِّ لوازم الحرب، والفئة الكثيرة، تظهر كثرَتها في العُدَّة والعَدَد وكلِّ لوازم الحرب، والفئة القليلة إنما تَغْلِب بإذن الله تعالى، وإن كانت الأسباب تقضي بغلبة الفئة الكثيرة، لكن مشيئة الله سبحانه تغلب الأسباب المادية، وتصل إلى ما شاءه الله تعالى، في الحسابات الإيمانية.

فمعارك أهل الإيمان يشيع فيها التحدي بين حسابات أهل الأرض، وبين المدد من السماء.

اللهم نصرك المبين، وتأييدك للمجاهدين، وحمايتك للمقاومين، وخذلانك للمجرمين.

{رَبَّنَا ‌أَفرِغ ‌عَلَينَا صَبرا وَثَبِّت أَقدَامَنَا وَانصُرنَا عَلَى القَومِ الكَفِرِينَ} [البقرة: 250].

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى