مقالات

فلسطين: ننتصر أو ننتصر

بقلم الشيخ محمد الناوي

﴿يا أيها النبيء حسبك الله ومن اتبعك من المؤمنين﴾(الأنفال: 64)

يحدثنا التاريخ أنه في المواقف الحاسمة والخيارات الصعبة، يتساقط الممتحنون كأوراق الشجر في خريف عاصف، ولا يصمد إلا قلة ممن تلبّسوا بالحق ظاهرًا وباطنًا.

وعند المنعطفات، نجد أن الفلاسفة يقولون إن الوجود والعدم نقيضان، وحكم النقيضين أنهما لا يجتمعان، بمعنى أن الشيء الواحد لا يكون موجودًا ومعدومًا في آنٍ واحد، ولا يرتفعان، أي لا يمكن أن يخلو ذلك الشيء من أحدهما. فلا منزلة بين الوجود والعدم، وقد استخدمنا هذا المصطلح المنطقي لنصف واقعًا مريرًا يمثله الحياد السلبي لكثير من الناس تجاه ما يجري في فلسطين، دون إدراك أن هذا الحياد يدخل في حيز العدم ويخدم العدو وحده.

لقد شاء الله أن نعيش هذا الزمن، وشاء أن يبتلينا بابتلاءين: ابتلاء من بني جلدتنا من المسلمين، وآخر من عدونا، وموضوع الابتلاء هو فلسطين، الأمانة التي شرّف الله بها الصفوة من خلقه، فحملوها وأدوا التكليف بإخلاص وصبر واحتساب، لا يرجون جزاءً ولا شكورًا، لأنهم يدركون مسؤولياتهم الشرعية والإنسانية. وفي المقابل، ينظر المتخاذلون من بني جلدتنا إلى هذه القضية كعبء يقلق صفو حياتهم ويفسد ودّهم مع ألد أعداء المسلمين. فلم يكتفوا بالصمت والخذلان، بل تحالفوا مع العدو قولًا وفعلًا، ظنًا منهم أن وأد القضية بات ممكنًا لقلة الناصر ورجحان قوة العدو المادية، متجاهلين نصوص القرآن وأحاديث المصطفى صلى الله عليه وآله وسلم، وسبب ذلك كله الركون إلى الدنيا وزخرفها، ونسوا قوله تعالى:

﴿فما أوتيتم من شيء فمتاع الحياة الدنيا وما عند الله خير وأبقى للذين آمنوا وعلى ربهم يتوكلون﴾ (الشورى: 36).

وبين سرمدية القلة من أهل الحق وكثرة أهل الباطل من أصحاب القرار والتأثير في مجتمعاتنا، تقف شعوبنا حائرة. إنها الفئة التي ابتلاها الله بالتباس الأمور عليها وضبابية فهم مجريات الأحداث، لأن المتحكم بضمير الأمة ووجدانها إما ناطق باسم الله، ممسك بمفاتيح الجنان، فيفتي بهواه أو بهوى ولي نعمته، حتى يرى العامة أن طاعة الله في طاعته ومعصية الله في معصيته، أو حاكم متجبر مستبد برقابها، مكبّل لإرادتها، تابع لعدوه. وبين المؤثرين في توجيه الرأي العام وتلك الشعوب، نجد فلسطين تستصرخ ضمير الأحرار والشرفاء: (هل من ناصر ينصرني؟) وهنا يتبين معدن المؤمنين والأحرار، لأن فلسطين هي الفيصل؛ فمن ساندها كان حرًا شريفًا، ومن خذلها – صامتًا كان أو ناطقًا أو فاعلًا – فعليه أن يراجع ضميره وموقعه من العبودية والذل الأزلي الذي سيلحقه.

حقًا، ومع فلسطين، لم نكن نتوقع أن نصل إلى مرحلة تصبح فيها الخيانة والخذلان مجرد “وجهة نظر”، ولم نكن نتوقع هذه البرودة في أمتنا، التي لا نلومها في ذاتها، لأنها تبقى الإطار الجامع الذي يخرج منه من يخلصها، حتى ولو تمت برمجتها عقليًا وروحيًا وماديًا لتكون طوع إرادة صناع القرار. لكننا نلوم أولئك الذين جعلوا أنفسهم أدوات لخدمة أعداء الأمة، لما يمتلكونه من قوة التأثير، وهم يدركون أن ما يفعلونه خيانة لله ولأمتهم.

لقد اعتدنا طيلة جولات الصراع مع أعدائنا أنه إذا أُوذي مسلم أو احتُلّ شبر من تراب المسلمين، تهبّ الأمة كلها، وتمّحي كل الحدود النفسية والجغرافية. لكننا وصلنا اليوم إلى مرحلة تُغلَق فيها الحدود بيننا ليجوع المسلم أو لينكّل به العدو الألد لنا جميعًا، بل ونشمت به لأننا لا نتفق معه في وجهة نظر! بل وصل بنا الحال إلى أن يعلن بعض الشواذ في الأمة النفير العام باسم الجهاد ليقتل المسلم أخاه المسلم، وتتردد حواضرنا الدينية العريقة في إصدار الفتاوى للجهاد باسم فلسطين، فتبقى شعوبنا حائرة وتائهة، وكأن قدرها ألا تصنع تاريخها.

ورغم كل ذلك، لا بد أن نحفظ يقيننا في ربنا ووعده الذي لا يتخلف أبدًا في نصرة الحق. وهذا ما يمنح مسيرتنا زخمًا قويًا، ويزيد من إصرارنا وعزمنا على مواصلة الطريق، مهما قلّ الناصر وعظمت التضحيات.

نحن أمة يعزّها الله وينصرها عندما تعزّ دينه وتنتصر لعباده المظلومين. ورغم كل الجراح، فالنصر حتمًا سيكون حليفنا، لأننا عندما ننتصر، ننتصر، وعندما نستشهد، ننتصر…

﴿والعاقبة للمتقين﴾

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى