مقالات

غزة.. من يستثمر في الطوفان؟

بقلم الشيخ محمد الناوي

﴿ولما برزوا لجالوت وجنوده قالوا ربنا أفرغ علينا صبرًا وثبت أقدامنا وانصرنا على القوم الكافرين﴾ (سورة البقرة: 250)

أمام أكبر احتلال وعدوان يُنكِّل بالإنسان على مرأى العالم، وأمام تجبُّر أصحاب حضارة التوحش، تقف الإنسانية جمعاء في مفترق طرق لا سبيل فيه للعودة إلى الوراء، ولا سبيل للخلاص إلا بقوة العزيمة في مواجهة هذا العلو والاستكبار والإجرام.

جالوت كلِّ زمان يرمز إلى القوة المادية المتفوقة والمتهورة، وسلاح المواجهة في كل زمان ثابت لا يتغير، وهو الصبر وثبات الأقدام، بما يعنيه من الإعداد بقدر المستطاع، والتوكل على الله بالمطلق. لقد مثَّل الطوفان بداية التشكُّل والولادة لعالم جديد، وهذا العالم سيرسم ملامحه الفريق الأقوى، الذي ينجح في استثمار ما يجري من أحداث على أرض غزة؛ إما فريق القتل والفتك والظلم الفاضح، وإما الفريق الذي يلتزم بـ “الإنسانية” في مبادئها وعدالة مسارها، ويقاوم بعزم شديد الفريق الأول.

غزة هي ميدان الاستثمار، وأهل غزة هم أصحاب الفكرة؛ هم حقل التجربة، وهم خميرتها ووقودها. فإما أن يُسبق ويُستثمر فيها من قِبل المجرمين لمسخ الإنسان وتحويل حياته، بل وحياة الكوكب كله إلى جحيم، وإما أن تسبق الإنسانية وتبني عالم الإنسان بما يحتويه من كرامة وحرمة وعدالة وسلام.

كان الطوفان أكبر فرصة ليستثمر فيها العالم العربي والإسلامي، ويستعيد من خلالها هويته الأصيلة ومركزية دوره، بعد أن غمره الذوبان في مسارات الإذلال والتبعية للآخرين. وكانت فرصة نادرة لالتحام “الراعي والرعية” في معركة يفوز فيها كلا الطرفين، بعد أن عاشوا حالة “الطلاق البائن” لعقود. فالطوفان كان – ولا يزال – فرصة لا تُعوَّض لإنهاء حالة التشرذم في الأمة، ولئن نجح في إيقاظ إنسانية الإنسان في دول الغرب، فإنه لم ينجح – إلى حد الآن – في تحريك قلوب وعقول أمة كاملة لطالما ادّعت أن فلسطين قضيتها الأولى، فإذا بها أعجز من أن تتضامن معها بمقاطعة سلعة، أو مرابطة في ميدان، أو رفع صوت من على منبر، ناهيك عن أن تقطع مع خطاباتها البالية في التحريض فيما بينها، لأجل الانتصار للقضية الأقدس.

لم يرقَ الخطاب الديني إلى عُشر ما تستحقه القضية، وما بُذل من دماء الشهداء؛ فوجود أكثر من ثلاثة ملايين مسجد في العالم، ومثلها من المؤسسات التربوية، لم يحرّك هذه الأمة أمام أهوال غزة، مما يعني أن هناك خللًا، إن لم نقل إن الخطاب الديني أو الأكاديمي ذاته لم تعد له علاقة بالواقع، وقد فشل في استثمار الطوفان لدفع الشعوب المسلمة نحو صناعة عزّتها بأيديها. وللأسف، لا تزال الحواضر الدينية مُصرّة على فشلها، من خلال تأخّر الفتوى فيها، وترددها، وتشرذمها، بالرغم من قِدمها، فيما الغرب تحركه مرجعيات طلابية ونخبوية وُلدت بالأمس مع انطلاقة الطوفان.

كذلك، فإن دولنا المُكبَّلة في قراراتها، قد أتاح لها الطوفان فرصة الخلاص، لكنها أصرت على مواصلة عملها بنفس النسق “السلاحفاتي”، عبر مؤسساتها المحتضِرة – إن لم نقل الميتة – وعجزت حتى عن طرد سفير مُطبِّع لديها، أو عن غلق سفاراتها في “دولة” الاحتلال. كذلك، ظل التبادل التجاري متواصلًا، بل وأكثر من ذلك، كانت تمدّ العدو بكل ما يحتاجه، بعد أن أغلقت عنه المنافذ البحرية، بينما هي عاجزة عن إيصال رغيف أو شربة ماء إلى المسلمين المحاصَرين في غزة. الشعوب المسلمة كذلك لم تستثمر في الطوفان بشكل جيد.

نعم، كان موقفها أقل رداءة من الحكّام، ولكن لا عذر لها. فغزة هي فلسطين، وهي الأقصى، وهي العقيدة المثبَّتة في كتابنا المجيد وسنة نبينا العظيم، ودماء غزة هي دماؤنا، لأنهم إخوتنا في الدين. ولكن أملنا في الشعوب يبقى قويًّا وراسخًا، لأنها مهد جيل التحرير، وهي السند الدائم لكل جيل مقاوم.

كان أملنا أن تكون شعوبنا القوة الفاعلة والضاغطة على القرار الرسمي المتخاذل، والسند المعنوي والمادي القوي لأهلنا في غزة، وأن يخوضوا غمار هذا الطوفان بعقلية واعية، وإرادة قوية، وعزيمة صلبة. ولكن غياب الربّان المحترف جعل تحركاتها بين مدّ وجزر. وحسبنا في القلّة المساندة التي ضحّت بكل ما تملك، وحسبنا الله ونِعم الوكيل.

مقالات ذات صلة

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى