مقالات

غزة.. وحسابات النصر والهزيمة

بقلم الشيخ محمد الناوي

﴿وما أصابكم يوم التقى الجمعان فبإذن الله وليعلم المؤمنين﴾ (آل عمران: 166)

ألا يكفي كل هذا الخذلان لنسمع أصواتًا من داخلنا تزيد في الوجع والقهر الذي أدمى قلوب أهلنا المحتسبين الصابرين في غزة؟ ألا يكفي عامٌ ونصف من الصمود الأسطوري لمليوني مسلم مستضعف، في مقابل خذلانٍ مخزٍ من مليار ونصف؟ متى تتحرك ضمائرنا ونصرخ صرخة يسمعها كل العالم، مفادها أننا أمة واحدة، وأن عدونا واحد، وأننا قد قررنا طيَّ صفحة الذل للعروج بأمتنا إلى حيث مواقع الشهادة؟

أي عقلية حرة هي تلك التي تجلس في أمن وأمان لتنتقد شعبًا مقاومًا يصارع إجرامًا لا مثيل له، ويُسلَخ على مرأى العالم، وتلومه على طوفانه ومقاومته؟

لماذا نلوم شعبًا مقهورًا استُضعف لعقود، ثم انتفض على جَلاده، ولا نلوم أنفسنا لأننا تقاعسنا عن إسناده؟ ولماذا لا نلوم أنفسنا قبل أن نلوم نظامًا عالميًّا ما كان له أن يستعبدنا ويُنَكِّل بأهلنا في فلسطين لو تمسكنا بديننا ووحدتنا؟ ومتى كان الوقوف إلى جانب المظلوم ينتظر إذنًا أو فتوى؟ أي وحشية نعيشها في عالم (متحضِّر)، وأصوات الصواريخ تعلو فيه على أصوات مؤسساته الحقوقية والقانونية والإنسانية، ولا تكترث لعويل النساء وذُعر الأطفال؟

وأي ديمقراطية يزعمونها، وكل الحكومات في العالم لا تُصغي لأصوات شعوبها المطالِبة بوقف الحرب؟ في أي عالم نحن، والمستشفيات ودور العبادة تُدمَّر؟ وهل بقيت لدينا ذرة من الإنسانية، وفينا وبيننا من نحاصره ويموت جائعًا أو عطشانًا؟

للأسف، نسمع ونرى من يرفع راية الوهن والاستسلام من أناسٍ هم أعجز من أن يقاطعوا مشروبًا يدعم الاحتلال. والمؤسف في هؤلاء أن فيهم الأكاديمي، وفيهم المعمَّم، فيما المرأة الفلسطينية، الأسيرة والحرة، بين ركام غزة، ثابتة كالجبل، تقاوم بلحمها ولا تستسلم…

من المؤسف أن نرى بيننا من يقرأ الدمار الذي حصل، والأرواح التي قضت إلى ربها، على أنها خسارة لا فائدة من ورائها. يقرؤون تكلفة مقاومة العدو على أنها أخطاء وخسارة للمقاومين والشعوب الشريفة، وانتصارًا للعدو.

هؤلاء لم يُمكنهم عقلهم من فهم سُنن الحياة، من أن ضريبة كل انتصار هي تضحيات جسام، وأن النصر متحقق في كل حالات المقاومين الشرفاء، وأن النصر الأكبر هو أن يلاقوا ربهم بدمائهم، لا بكراسيهم ومناصبهم. هؤلاء لم يستوعبوا أن مقاومة الظلم يلزمها تضحيات تعبّد الطريق نحو عزة كاملة، لم يفقهوا أن دماء الشهداء تُثمر أجيالًا تحفظ إرثًا من الآباء يرفض الذل والهوان، ولم يدركوا أن العدو الذي احتل الأرض، ودنّس المقدسات، وانتهك الحرمات، وقتل الأبرياء، هو عدو لا يفهم إلا لغة القوة. هؤلاء لم يستوعبوا القانون الإلهي، أن مقاومة العدو وتقديم التضحيات هو ما يُميز المؤمنين عن المنافقين. فالمؤمن يلتزم الحق ولا تهمه العواقب، سواء وقع على الموت أم وقع الموت عليه، أما المنافقون، فيلتزمون ما يُغنيهم من متاعٍ زائل وسلامة دنيوية، حتى وإن لحقهم الذل والهوان…

إن المقاومة هي مشروع عزة وحياة لكل مظلوم، وإن كلفة المقاومة تبقى دومًا أقل من كلفة الاستسلام. فما ضاع حق وراءه طالب، وما ضاعت قضية بُذلت فيها الأرواح.

وعلينا أن ندرك أن القضية الأقدس تمر بمنعرج خطير، وأن هدف العدو واضح: محوها وإزالة موقعها المركزي من اهتمامات هذه الأمة. فإذا ضاعت فلسطين، ضاعت باقي المقدسات، ولن يبقى لنا ذِكر ولا وجود.. وحسبنا الله ونِعْمَ الوكيل.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى