مقالات

لا كرامة ولا حياة بدون الأقصى

ليست القدس مدينة كسائر المدن أبدًا، وليست مواقعها كبقية معالم الدنيا الأثرية، مهما كانت قيمة تلك المعالم عظيمة وفريدة ولا مثيل لها.

وليست معابدها المسيحية أو الإسلامية كسائر كنائس الدنيا أو كأي مسجد آخر من مساجد العالم، لأنّ لكل موقع ومسجد وكنيسة في القدس جذوراً توغل في عمق صلة الأرض بالسماء، وتورق في كل أغصان العلاقة التي حاول الإنسان بناءها مع كتب الله تعالى ورسالاته.

ناهيك عن صلة القدس بأصول المدنية الإنسانية، وبدايات الطريق التي شقَّها الإنسان في رحلة تسخيره للكائنات الحيوانية والنباتية وسائر الموجودات الأخرى، وبالتالي فإن الحضارة لم تولد إلا هنا، على جبل الزيتون وفي البقعة المباركة حوله، سواء في أبعادها الروحية والمعنوية أم في جوانبها المادية والتقنية.

وعندما نخصّ الأقصى بالحديث فلأن الأقصى هو الرمز الذي يعبّر عن كل ما حوله، من الكنائس والمساجد والعمائر والتاريخ والحضارة والإنسان، الذي استوطن هذه الأرض منذ فجر التاريخ وسقاها بعرق جبينه ودماء وريده.

فليس الأقصى حجرًا أو موقعًا أو بناء عاديًا، وليس مسجدًا يُذكر فيه اسم الله فحسب، بل هو شخصيةٌ اعتبارية كاملة الوجود والأبعاد، وهو بشخصيته هذه كان وما زال حاضرًا في شخصيات أبناء أمة طويلة عريضة.

أمّة ارتبطت بهذه القبلة ماديًا ومعنويًا، منذ مهد المسيح في إحدى مغاراتها ثمّ ارتقائه إلى السماء من على ربواتها، مرورًا إلى الإسراء العظيم، وتلك المحطة الفريدة التي اجتمع فيها صفوة الخلق من الرسل والأنبياء ليصلّوا لله بإمامة خاتمهم المصطفى، وكأنهم يعلنون أن مفتاح القضية هنا، وأن معراج البشرية إلى الكمالات الروحية والمادية مرهون بإعطاء هذه البقعة حقَّها ومقدارها كما ينبغي.

وعندما نرى العدو الصهيوني المحتل دائم التركيز على الأقصى والقدس خصوصًا فلأنه يريد تدمير كل هذه المعاني التي يمثلها الأقصى، ولأنه لا يريد أن يترك لأحد غيره مكاناً في القدس أبدًا.

ألا ترون أننا نقرأ في المواقع الإخبارية بشكل شبه يومي، وضمن ذلك أعداد هذه النشرة الأسبوعية، أنباء عن اعتداءات متكررة للاحتلال على الأقصى والقدس ؟! وأنّه لدينا دائمًا ما هو جديد من عقارات يتمّ تسريبها إلى المستوطنين المعتدين، واقتلاع أهلها منها ؟ وأنّ القدس قد أصبحت مدينة الأنفاق غير الشرعية بامتياز، فكل مدة هناك اكتشاف لنفقٍ ما تحت المسجد الأقصى أو حوله، ينفذه الاحتلال بسرية ومثابرة لعله يجد ما يؤكد دعواه الباطلة في ملكية هذه الأرض، وهو ما لم يحصل أبدًا؛ أو لعل هذه الأنفاق تؤدي إلى المساهمة في تدمير الأماكن المقدسة، وهو ما يأمله العد في كل ساعة.

عنوان هذه العدد من النشرة “صرخة من أجل الأقصى”، لعلّ حرًّا وشريفًا وغيورًا يسمعها؛ والصرخة هنا هي صرخة من أجل العدالة لا لفلسطين وحدها، بل للإنسانية كلها، لأن الظلم الواقع على فلسطين يجري عبر أدوات وجهات ودول تشمل أرجاء الأرض كلها، ولأن هؤلاء الظالمين هم أنفسهم الذين يظلمون وينتهكون ويعتدون في مشارق الأرض ومغاربها، وبالتالي فإن الإثم كبير والخطر داهم على الإنسانية كلها.

والصرخة من أجل الأقصى هي صرخة من أجل أنفسنا جميعًا، لأن مشروع تدمير الأقصى هو جزء أساسي من مشروع استعباد البشرية كلها، وتحويل الجميع إلى خدمة الثلة الطاغية القليلة، التي ينبغي أن ترفل في النعيم والترف على حساب الباقين من البشرية، والذين هم الأكثرية.

فهل للصرخة مِن سامعين ؟! لا شك في ذلك، ولا ريب في أن سنن الله تعالى وكفاح المظلومين لن يسمحا بانتصار المستكبرين.

محمد أديب ياسرجي
أمين سر الملتقى العلمائي العالمي من أجل فلسطين

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى