المقاومة الشعبية.. تصنع الحرية

مرَّت منذ أيام ذكرى حرب حزيران 1967، المعروفة بين العرب باسم النكسة، في جناس مرير مع مفهوم النكبة الذي أطلق اسماً على حرب 1948، التي أعقبت إعلان قيام الكيان الصهيوني الغاصب بدعم غربي مفتوح.
ولئن كانت كثيرة هي الدراسات التي تقدّمت نحو فهم النكبة والنكسة، وتحليل الأسباب والنتائج، فإنّا لا نريد الإدلاء بدلو جديد في هذه البئر، ولكننا ننظر إلى جانب آخر، أكّده عدّد من كبار المفكرين، ومنهم الشهيد الدكتور فتحي الشقاقي رحمه الله، وهو أن النكبة والنكسة وسواها من محطات الفشل والهزيمة، لا تسجّل إلا في صفحات الأنظمة العربية والإسلامية، ولا يمكن أن نحسبها على الشعوب ولا على الشعب الفلسطيني خاصة.
إنَّ الانتصارات الحقيقية، وهي انتصارات مرحلية لم تكن كافية لتحرير فلسطين لكنها ضرورية ولايُستغنى عنها للوصول إلى الهدف؛ هي الانتصارات التي حققتها المقاومة الشعبية في مواجهة هذا الكيان، بما فيها المقاومة المدنية التي لم ترفع بندقية ولا أطلقت رصاصة، من خلال التمسك بالأرض ورفض التهجير، وتحمّل كل صنوف الحصار والتعرّض لخطر القتل أو الاعتقال، وتقبّل التضحيات في مواجهة جولات متعددة من حروب الإبادة التي تمارسها العصابات الهمجية المسمّاة بالجيش الصهيوني، وهي المقاومة التي نرى نموذجاً بليغاً لها في غزة اليوم.
لم يكن تاريخ الأنظمة إلا تنازلات تعقبها تنازلات، ولم يشنّ أكثرهم الحروب إلا ليصلوا إلى مائدة المفاوضات، وهي الطاولة التي يتغلب فيها المكر الصهيوني والدهاء الأمريكي على العرب، ولذلك لم تأتِ لنا بأي خير، ولا حصلنا فيها حتى على الأشياء التي رضي العدو بأن يعطينا إياها.
وأمّا تاريخ الشعوب، التي فُرض عليها الاستبداد والفقر والجهل، ورغم ذلك كله لم ترضَ بالهوان، وحديثنا اليوم عن الشعب الفلسطيني، وعن مساهمات شعبية أخرى وقفت إلى جواره، منذ بدايات الاحتلال وحتى اليوم.
لقد كانت الثورات المؤثرة في التاريخ الفلسطيني منذ ثورة النبي موسى، والثورة الكبرى، والمعارك المشرفة التي قادها الشيخ القسّام وعبد القادر الحسيني وغيرهم، كانت كلها ثورات شعبية، ولم يخسر الحسيني معركته الأخيرة ويستشهد فيها إلا نتيجة التخاذل الرسمي العربي.
كما كانت المجموعات التي وصلت من خارج فلسطين للمساندة في ثورة 1936 وغيرها من الثورات الفلسطينية مجموعات شعبية تضمّ متطوعين من العراق وغيره من الأقاليم، التي كانت خاضعة للاستعمار الأوروبي حينها.
وناهيكم بالانتفاضة الأولى من ثورة شعبية كبرى لا نظير لها في حركات التحرر العالمية، وإن تمّ استهلاك نتائجها السياسية في اتفاقات أوسلو الفارغة، لكنها لا تزال مستمرة حتى يومنا هذا من خلال أشكال جديدة من المقاومة الشعبية الفلسطينية، التي يبدو أنها هي الجواب الوحيد الناجع أمام الإجرام الصهيوني الذي وصل إلى حدّ الإبادة الشاملة في غزة، وفي الضفة التي يتمّ تغييب الأنباء عنها، بينما يقوم العدو بإعادة توزيع ديمغرافي وتشكيل للمخيمات والتجمعات السكنية الفلسطينية، بمايتوافق مع مطالبه العسكرية الهادفة لفرض نكبة جديدة في الضفة.
إنّ مستوى الوحشية الصهيونية غير المسبوق في التاريخ، وانحدار الموقف الرسمي العربي والإسلامي نحو أسفل سافلين، لدرجة قمع المبادرات المدنية الهادفة لكسر الحصار عن غزة، يؤكد أن الخيار الشعبي هو الأمل، وهو ما يعرفه العدو جيداً، وهو الذي يبعث على الخوف الكامن في تصريح أحد قادة العدو منذ أيام، عندما قال: إنّ كل أب أو أم تُقتل اليوم في غزة، سوف يكونون حافزاً ليتحوّل أطفالهم إلى مقاومين في المستقبل القريب.
حاشا لله أن يرضى باستمرار هذا السيل من الدماء، وهو الذي وعد بنصرة المظلومين، وحاشا لشعبنا الفلسطيني أن يتخلّى عن ثقته بربه وإيمانه بقضيته، وسوف يبقى متمسكاً بأرضه صامداً أمام المحن حتى تحرير كامل فلسطين بإذن الله.
أمين سر الملتقى العلمائي العالمي من أجل فلسطين