مقالات

استُشهد ناصر؛ فهل مِنْ ناصر ؟!

كما كان متوقّعاً، ارتقى الأسير البطل ناصر أبو حميّد شهيداً، بعد مسيرة كفاح وصمود وتضحية، واجه فيها تحديات جمّة، كان كل واحد منها كفيلاً بأن يرفع الإنسان إلى رتبة الشهادة عند الله؛ من الاحتلال والسجن والعذاب والمرض العُضال، ناهيك عن غربته عن أهله، وبُعده عن والدته السبعينية، التي استحقت لقب “خنساء فلسطين”، لصبرها وإيمانها وتضحياتها في سبيل فلسطين.

استشهد ناصر، الذي امتدت فترة أسره الأخيرة منذ عام 2002 حتى استشهاده، وكان يقضي حكماً من أعجب أحكام الزمان، يقضي بحبسه مؤبداً لسبع مرات، وفوقها جميعاً 50 سنة إضافية، علماً أنّ لناصر أربعة أشقاء آخرين أسرى لدى الكيان الغاصب، وهم محكومون بما مجموعه 19 مؤبداً، و88 عاماً إضافية.

استشهد ناصر، وهو الثاني بعد أخيه عبد المنعم الذي استشهد عام 1994، في هذه العائلة التي تتكون من 10 أشقاء، بلغ مجموع ما قضوه في السجون الصهيونية حتى اليوم 110 أعوام، وهي أكبر مدة زمنية لبيت واحد، وأول بيت فلسطيني يُحكم على 5 من أبنائه بالسجن المؤبد.

وأمّا أم ناصر، الحاجّة لطفية، فهي الكهف والموئل الذي وسع كلّ هؤلاء الأبناء الأبطال ووسع زوجاتهم وأبناءهم؛ ربّتهم صغاراً حتى بلغوا ما بلغوا من الفتوة والإباء، ورعتهم مع زوجها الكفيف الأسير المحرر الذي نال الشهادة أيضاً في النهاية.

عاشت أمّ ناصر تجربة الأسر مع جميع أبنائها الـ10 الذين مرّوا بتجربة الاعتقال لسنوات عدّة، وكذلك حفيدها، إضافة إلى أنها عاينت هدم الجيش الصهيوني لبيتها 5 مرات، لتقف في المرة الأخيرة منهن وتخاطب الضابط الصهيوني الذي حاول استفزازها قائلة: (ذهب الأولاد، فلن أحزن على البيت، افعل ما شئت، ومهما فعلتوا وهدمتوا بيوتي، واغتلتوا ولادي، وأسرتوا أحبابي، ما رح تهدّوا حيلي).

استشهد ناصر أمام “عالم حرّ وديمقراطي” يقاتل زعماؤه بشراسة من أجل حقوق الإنسان، التي لا يجدون مجالاً لها خيراً من الدفاع عمّا يسمونه حقوق المثليين، ويعلو نحيبهم لانخفاض واردات الغاز عن بلدانهم؛ بينما تعيش الدول المنتجة للثروات في ظلام ومعاناة، ويموت أطفالها من وطأة البرد في الشتاء، أو على حواجز ينصبها المحتل بين مدن بلادهم وقراها، بنيران جنود لا يستطيع أحد أن يسائلهم، فضلاً عن أن يوجّه الاتهام لهم أصلاً.

هذا هو العالم الذي يصيبه العمى والصمم والشلل أمام الكيان الصهيوني وأفعاله التي لا يشكّ عاقل ولا منصف في أنها تُصنّف تحت عنوان جرائم الحرب والجرائم ضد الإنسانية.

استشهد ناصر، وأمثالُ ناصر في فلسطين كثيرون، بلغ عدد الأسرى منهم الذين يعانون من أمراض مزمنة أو إعاقات مزعجة ما يقارب 600 أسير !

استشهد ناصر؛ ولا ناصر له اليوم بين الكبار، الذين لا يفكرون إلا بما يزيد سطوتهم على مقاليد الحكم وأرزاق العباد وثروات العالم.

لكنّ أنصار ناصر بين المستضعفين كثيرون، المستضعفين في أعين المستكبرين؛ لكنهم ما كانوا يوماً في حقيقتهم ضعفاء !

نجد صفوة هؤلاء الأنصار في فلسطين، في شبابها ونسائها وأطفالها، الذين يروي كل واحد منهم حكاية فلسطين بأحسنَ مما يروي اسمه الشخصي؛ ويقدم أصغرهم عمراً مرافعة في الحقّ الفلسطيني كأعظم ما يرافع كبار الحقوقيين، ويبذل جميعهم نفسه وروحه فداءًا لحريتها، ولا يرضى بأنّ يقرّ للغاصب بشبر من أرضها أو حفنة من ترابها.

وفي العالم أيضاً أنصار لفلسطين ولأم ناصر وأبنائها، ولكل الأسرى والجرحى والمشرّدين في فلسطين.

رأينا ملامح من هؤلاء الأنصار على مدرجات ملاعب كأس العالم، في صورة أثبتت أنّ كل الناس يميزون ما بين الحق والباطل.

قد يكون ما شهدناه في كأس العالم عواطف وانفعالات؛ لكننا نعلم أن العواطف جزء من عقل الإنسان، وأنها هي التي تشكل وقود الفعل البشري، ولابدّ من يوم يتّجه فيه هذا الفعل صوب وجهته الصحيحة، انتصاراً للمظلوم، وردعاً للظالمين.

رحم الله ناصر، وربط على قلب أمّه الصابرة المحتسبة، ورفع قدرها ومنزلة أبنائها بين أكرم الشهداء، وجميع أمهات وشهداء فلسطين.

محمد أديب ياسرجي
أمين سر الملتقى العلمائي العالمي من أجل فلسطين

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى