غزّة.. بين ثوابت النصوص ومتغيّرات الواقع

بقلم الشيخ محمد الناوي
﴿سُنَّةَ اللهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِن قَبْلُ، وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللهِ تَبْدِيلًا﴾ (الأحزاب: 62).
كلّ يومٍ يؤكّد لنا الواقعُ أنّنا أقرب من أيّ وقتٍ مضى إلى تحقّق السنن الإلهية الثابتة وعدلِ الله في الدنيا قبل الآخرة. فتأخّر الفرج والنصر عن أهلنا في غزّة لا يعني البتّة تخلّف الوعد الإلهي، بل حتمًا عدم توفّر الأسباب؛ وحتى لو تحقّقت كلّ الأسباب، فقد يتأخّر الفرج لوجود مانع، لأنّ المانع أقوى أثرًا في الفعل من السبب. فَوَعْدُ اللهِ بالتمكين لعباده الصالحين الذين بذلوا أرواحهم قد يتأخّر لوجود مانع الخذلان في الأمّة؛ إذ لا بدّ من غربلة دقيقة قبل أن يمنح الله نصره لخاصة عباده. فالنصر لا يُعطى لخليط، وميراث الأرض لا يُمنح لمن خذل الحقّ؛ لأنّ خذلان غزّة وإمداد العدوّ بما يحتاجه هو بمثابة الشراكة معه في الجُرم. فكيف لشريك العدو أن يكون في صفّ الحق لينال عطيةَ الله؟
في الثابت حول مجريات الأحداث في غزّة الصامدة نقرأ قولَ الله تعالى: ﴿لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِّلَّذِينَ آمَنُوا الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا﴾ (المائدة: 82)، حيث يتجلّى هذا العداء أمام أعين العالم في قتل النساء والأطفال والشيوخ، ومعه الإفساد في الأرض بما نشاهده من دمارٍ وعربدةٍ للعدوّ في كلّ مكان.
وفي الثابت أيضًا نقرأ قولَ الله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَىٰ أَوْلِيَاءَ ۘ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ ۚ وَمَن يَتَوَلَّهُم مِّنكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ﴾ (المائدة: 51). فالكفر مِلّةٌ واحدة، وعداؤهم للمسلمين ثابتٌ وإن اختلفت درجاته. وفي المقابل، الثابت أنّ المسلمين يبقون أمّةً واحدة مهما اختلف فهمهم لهذا الدين، وذلك انطلاقًا من قول الله تعالى: ﴿إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ﴾ (الأنبياء: 92).
وفي الثابت كذلك نقرأ وعدَ الله بنصرة عباده، وتعليق ذلك على نصرة الحق، في قوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ﴾ (الحج: 40).
السؤال الكبير: كيف تعامل المسلمون مع هذه الثوابت البيّنة من قرآننا؟
الجواب: إنّ الجميع يعرف أنّ القلّة فقط هي من عملت بمنطوق تلك النصوص، أمّا الغالبيّة ـ للأسف ـ فلا تزال تعيش وهمَ الأمانِ مع هؤلاء القتلة، لتستفيق كلّ يومٍ على أهوالٍ: سفك دماء الأبرياء، واغتصاب الأرض والمقدّسات، وتدمير كلّ أشكال الحياة، والإمعان في التجويع والحصار القاتل.
وفي المتغيّرات نشهد انقلابًا كونيًا على زيف ادّعاءات العالم الغربي ووكيله في المنطقة؛ حيث لا حقوقَ إنسان عند هؤلاء إلا فيما يتعلّق ببني جلدتهم، ولا حدودَ لإجرامهم إذا تمسّك جشعهم، ولا حرمة لملايين الغزّاويين المحاصَرين؛ بل الأولويّة عندهم لتحرير خمسين أسيرًا. فتوظيف المكر والخداع والمماطلة في القرارات والسلوكيّات هو الأساس الذي ينطلقون منه للوصول إلى أهدافهم.
هذا الانقلاب الكوني ضدّ الزيف وغطرسة العدوّ تجلّى بوضوح قبل أيام في الأمم المتحدة من خلال تصويت أكثر من سبعين في المائة من الأعضاء على حقّ الشعب الفلسطيني في بناء دولته المستقلة، وانسحاب معظم الحاضرين أثناء إلقاء كلمة رئيس الكيان المحتلّ. وهذه الخطوات لها دلالة كبيرة من شأنها إحراج العدوّ بقوةٍ وجعله معزولًا دوليًا، وقد تعقبها خطوات عمليّة أقوى تُوجعه؛ هذا من ناحية الموقف الرسمي.
أمّا على مستوى الموقف الشعبي فنلاحظ ازدياد الحراك في عواصم العالم ليتحوّل إلى عصيانٍ مدنيّ شامل يهدّد بإغلاق الموانئ والبحار أمام تجّار السلاح، ويفعّل أشدّ أشكال المقاطعة الاقتصادية لكلّ من يمدّ شريانَ العدوّ بالحياة. وكان الأبرز أيضًا إبحارُ أسطول الصمود لكسر الحصار بعشرات السفن، التي ستعقبها مئاتٌ أخرى، رغم تعرّضها للقصف قبل انطلاقها من تونس وبعد إبحارها، في خطوةٍ من العدوّ لترهيب هذا الأسطول ومنعه من مواصلة مساره باتجاه غزّة.
وبين ثوابت النصوص ومتغيّرات الواقع تبقى غزّة وفلسطين مسؤوليّةَ العالم الإسلامي وهمَّه الأوّل؛ ويتوجّب عليهم العملُ الجادّ لنصرتها. فلدى الشعوب والدول كلّ أسباب القوة التي لو فُعِّل جزءٌ منها لتوحّدت الأمّة، وصنعت لأجيالها مستقبلًا من العزّة والكرامة؛ ولأزاحت هذا العدوّ من جغرافيّتها، ومنعت سفك كلّ هذه الدماء وحدوث كلّ هذا الخراب.
فلتبقَ عيونكم على غزّة وعلى قول الله تعالى: ﴿وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَـٰكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَايَعْلَمُونَ﴾ (يوسف: 21).