مقالات

غزة.. وجبر السماء

بقلم الشيخ محمد الناوي

﴿وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا ۚ وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ﴾ (العنكبوت: 69).

علمنا ربنا أن الحياة الحقيقية التي يجب أن يحياها المرء هي تلك التي يعيشها متمردًا وثائرًا على كل أشكال التخلف والظلم، تلك الحياة التي يبدؤها الثائر من تمام العبودية لله لتأخذه إلى قمة العزة التي اختص الله بها عباده الصالحين. ﴿يَا أَيُّهَا الْإِنسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَىٰ رَبِّكَ كَدْحًا فَمُلَاقِيهِ﴾ (الانشقاق: 6).

وعلمتنا السنن الكونية ثباتها كما أرادها الله لتلقي الحجة على كل متخاذل وخانع للظلم والظالمين، وضرب الله لنا الأمثال في قرآننا حول صراع الحق والباطل، وأن أهل الحق غالبًا ما يكونون قلة مستهزأً بهم، منكلًا بهم ومقصيين عن مشهد الفعل الذي يحتكره الظالمون، ولكن الغلبة في النهاية تكون للحق وللمحقين طالما عاشوا مقاومين.

وعلمتنا تجارب الأمم عبر التاريخ أن مقاومة الظلم لا تخضع بالمطلق لموازين القوة المادية للخصم، وقد استطاعت كل شعوب الأرض أن تطرد المحتل وتنقلب على الحاكم الظالم، وتلك هي تقلبات الحياة التي لا تعرف استقرارًا ما دام هناك نبض مقاوم لدى الشعوب، وفلسطين لن تكون استثناءً.

لا شيء يأتي بالمجان، وضريبة الحرية والكرامة تكون في الغالب مكلفة، وهنا بالتحديد تتمايز المواقف ويتمايز الرجال.. والطوفان كان بمثابة مجمرة الحدّاد التي صُهرت فيها معادن الناس، فتمايزت الصفوف تمايزًا بيّنًا كشفت فيه عورات أنظمة ونخب والكثير من الشعوب التي باتت لا تمتلك الإرادة والعزيمة حتى على المقاومة السلبية كالمقاطعة لبعض المنتجات الداعمة للعدو، أو حتى الكتابة عبر وسائل التواصل دعمًا للقضية الأولى للمسلمين، حيث نرى العديد من النخب الدينية والأكاديمية تكتب في مواضيع الخلافيات العقدية والفقهية بين المسلمين وكأن الدماء التي تُسفك في غزة تقع في كوكب آخر ولا تعنيهم شيئًا.

لا يشك أحد أننا نمر بمرحلة استثنائية صعبة قد تكالب فيها الشر كله على القلة والصفوة الخيّرة، كما لا يشك أحد أن الشر قد سخّر كل أدواته وارتكب أبشع الجرائم لاقتلاع أهل الأرض من أرضهم وصرف أهل الحق عن نصرتهم، كما أن تلك الصفوة قد قدّمت كل أشكال التضحيات ولم تدّخر قطرة دم واحدة من أجل الانتصار لمظلومية أهلنا في فلسطين، وهذا في حد ذاته مؤشر على وجود المخلصين في هذه الأمة، ومما يبشّر ببداية انقلاب كوني ينتصر فيه الله للمظلومين حيث لن تتخلف سننه. ﴿فَلَن تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَبْدِيلًا ۖ وَلَن تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَحْوِيلًا﴾ (فاطر: 43)، وحتى وإن تأخر الفرج فإنما لمزيد من التمحيص والغربلة ولحكمة في علم رب العالمين.

على المسلمين أن يتدبّروا قرآنهم، وأن يقرؤوه ببصيرة ليفهموا قوانين الله التي تحرك الكون وتضبط قواعد النصر والعزة، ليكونوا بمستوى من يعز الله بهم دينه وينتصر بهم لعباده المستضعفين، ويتحقق على أيديهم وعده بإعلاء كلمته وخلافة أرضه. فهذه الأرض أرضنا، والمقدسات مقدساتنا، ومن يملك الأرض والمقدسات يجب أن يقاوم ليصنع المستقبل، وأما الباقي فغرباء وعابرون مهما طال مقامهم واشتد طغيانهم. ﴿إِنَّ الْأَرْضَ لِلَّهِ يُورِثُهَا مَن يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ ۖ وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ﴾ (الأعراف: 128).

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى