وإليها نعود

بقلم الشيخ محمد الناوي
نقولها وبكل مرارة: إن رهانات الشعوب المسلمة على حكوماتها ومؤسساتها الرسمية فيما يتعلق بالقضية الفلسطينية قد سقطت، ووصلت الشعوب إلى يقين تام بأن أقصى ما يمكن أن تقدمه تلك الأنظمة هو الإدانة الخجولة تجاه ما يُمارَس على الشعب الفلسطيني من إبادة لم يشهد لها التاريخ مثيلاً. وهذا لا يُعدّ أضعف الإيمان بقدر ما يدخل في خانة العمالة والخيانة. وقد بات خيار الشعوب في التحرك لإسناد إخوانهم المضطهدين في فلسطين من أوكد الواجبات، ومن هنا يبرز من جديد دور العلماء والشرفاء ليكونوا قادة هذا الحراك الذي انتظرناه طويلاً ولا نزال، كونهم النخبة الأقرب إلى قلوب الناس، والأكثر تواصلاً معهم، والأصلب في التزام معايير الحق.
لقد تم خنق كل الأنظمة العربية والإسلامية بإغراقها في أزمات لا نهاية لها، حتى باتت مسلوبة الإرادة في اتخاذ أي قرارات سيادية فيما يتعلق بسياستها الداخلية، كما تم قطع أوصال جسد الأمة حتى ينشغل كلٌّ منا بهمومه. وعليه، تبقى الشعوب هي الجهة الوحيدة التي يمكنها قلب المعادلات وصنع التغيير لتحمي نفسها، وتبني وحدتها، وتنتصر لمظلوميتها.
ويتأكد دور العلماء في قيادة الشعوب أكثر، كونهم المؤتمنين شرعاً على عزة المسلمين وصون أوطانهم، وكون الموقف العلمي لا يقبل المداهنة للخصوم، لأنه يلتزم بضوابط الفتوى الشرعية التي تنتصر للحق وتقف بوجه الظالم، ولا تتأثر بأي ضغوط مهما اشتدت.
إن دور العلماء في قيادة الشعوب للتغيير والانتصار لقضاياها الكبرى هو دور أصيل وامتداد لدور الأنبياء في حركة التاريخ. كما أن الرهان على الشعوب في صناعة التغيير ليس رهاناً طارئاً، بل هو الرهان الواقعي الوحيد الذي أثبتته الأحداث قديماً وحديثاً. والتغيير الذي تصنعه الشعوب لا يحتاج إلى مصادقة من أحد، فالشعوب كما تكون صانعة للتغيير، تكون أيضاً الحاضنة والضامنة لتثبيته وديمومته.
المطلوب اليوم أن يكون الحضور العلمي أكثر قوة وفعالية، ليحول خمول الشعوب التي تم إذلالها وتفريقها عِرقياً ومذهبياً إلى طاقة جبارة تعتز بانتمائها لهذا الدين، وتمتلك غيرةً تدفعها للدفاع عن مقدساتها وقضاياها المصيرية، وعلى رأسها الأقصى وكل فلسطين.
وأمام التحديات الوجودية الكبيرة التي تهدد الأمة، على العلماء أن يأخذوا بزمام المبادرة، ويستعيدوا دورهم الفعّال، ليلتحموا بشعوبهم، ويرسخوا في أذهانهم مركزية (الشهادة)، التي تجعل منهم الأمة الحجة على كل الخلق، من خلال مقاومتها للظلم وانتصارها للمظلومين.
ولا يمكن للعلماء أن يكسبوا ثقة شعوبهم إلا بالتزامهم الصدق والإخلاص، وأن يؤدوا دور الأنبياء كقادة أمميين، متجاوزين كل حدود الجغرافيا والمذهب واللون والقومية إلى آفاق الإسلام العظيم، الذي يحتضن الإنسان المظلوم أينما كان ويدافع عنه.
لقد تأخرت حواضرنا الدينية عن الحضور في أقدس الساحات، وعليها أن تتحمل مسؤولياتها أمام الله وأمام شعوبها. هذه الحواضر الممتدة جغرافياً من طنجة إلى جاكرتا، والتي تحتضن عشرات الآلاف، بل مئات الآلاف من طلبة العلم والمشايخ، آن لها أن ترفع الصوت عالياً، وأن تنزل إلى الشوارع وترابط فيها، لتقول كلمتها الفصل: إن فلسطين كلها أرض إسلامية محتلة، ويجب تحريرها كاملة.
وعلى العلماء أن يقوموا بالتعبئة العامة المنظمة، والتخطيط المحكم، والعمل الجاد، والتنسيق فيما بينهم ليشمل ذلك كل الجغرافيا الإسلامية، لأن من شأن ذلك أن يُرهق العدو، ويُشتت جهوده، ويُضعفه.
إن كل روح تُزهَق، وكل وجع يهدّ القلب في غزة، هو في رقبة حواضرنا الدينية والمشرفين عليها، لأن التكليف قد سقط عن أنظمتنا العاجزة. وعلى العلماء أن يبنوا قناعة راسخة لدى شعوبهم بأن غزة وفلسطين هي حصن الأمة الأخير الذي لن يسمحوا بسقوطه، وأن العلماء هم الثقل الفاعل مع ثقل الشعوب في القيادة والتوجيه والتضحية لأجل تحرير الأرض والمقدسات وصون كرامة الإنسان.
إن العلماء الذين عملوا لقرون على بناء مجتمعاتهم عقيدة وفقهاً وسلوكاً، يكتمل دورهم بأن يُنَمّوا فيهم عزة الانتماء لهذا الدين، والاستعداد للدفاع عنه. وعليهم أن ينزلوا (فقه الأولويات) على أرض الواقع، فيقدموا الدفاع عن غزة وعن الأقصى وفلسطين، ويجعلوه على رأس اهتماماتهم.
فحواضرنا الدينية لم تُشَيَّد ليسودها هدوء تدريس العلوم الشرعية بين جدرانها، في الوقت الذي لا تنقطع فيه أصوات انفجارات القنابل على رؤوس أهلنا في غزة.
﴿ولينصرن الله من ينصره، إن الله لقوي عزيز﴾ (الحج: 40).