غزة.. مراجعات

بقلم الشيخ محمد الناوي
يقول الله تعالى: ﴿لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِّلَّذِينَ آمَنُوا الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا﴾ (المائدة: 82)
العدوان على غزة كان قاسيًا في فتكه، طويلًا في أمده، كاشفًا فيه حقيقةَ الغرب، وهُويةَ الكيان، وخذلانَ القريب، ومكرَ البعيد.
لقد دفع أهلنا في غزة ضريبة خذلاننا أكثر مما دفعوه من دماءٍ سفكها العدوان؛ فجراح الجسد تندمل لا محالة، إما بالشفاء أو بالموت، بل وتُنسى، أما جرحُ الخذلان فإنه يصيب القلب والروح، ويبقى أثره، وتُحاسَب عليه الأمة قبل يوم القيامة وبعده.
وعليه، فإن من واجبنا كأمة أن نجتمع ونقوم بعملية تشريح عميقة ومؤلمة، نحاسب فيها أنفسنا؛ فليس الزمان زمانَ مناقشةِ الاختلافات الفقهية والعقدية، والعدو لا يفرّق بين من يغسل رجله ومن يمسحها. المرحلة أخطر؛ لأن العدو قرّر استئصالنا جملةً وتفصيلًا. فإما أن نكون أمةً موحَّدةً عزيزة، أو أن نكون سطرًا في كتب الغابرين.
علينا أن نزيح كلّ الخلافات التي أورثنا إيّاها التاريخ جانبًا، ونجتمع تحت سقف الله ورسوله، الذي تؤمن به جميعُ فِرَق المسلمين، نجتمع لرفع الظلم عن أمة الإسلام، عن أهلنا المقهورين في غزة. وعلى الشعوب أن تُحاسب نفسها، وأن تطرق نافذة الوعي في وجدانها، وأن تُساءل علماءها ومثقفيها ونُخَبها عمّا آل إليه حالنا من ذلٍّ وهوان.
كفانا كُرهًا وحقدًا؛ لقد قتلنا الإنسانية فينا بعصبياتنا، ففقدناها حين وجبت نصرتُنا لغزة. غيّبنا سماحة الوعي، وأحللنا محلّها رذيلة العصبية. ولن تنتصر الأمة إلا بوحدةٍ صمّاء تعصم دماءنا، وتُعِزُّ ذليلنا، وتردع عدونا.
علينا أن نبحث عن الإسلام في معاني القرآن، وفي أنفاس الحبيب محمدٍ صلى الله عليه وآله وسلم. نعم، قَدَرُنا أن نختلف، لكن الحذرَ كلَّ الحذر من أن نحوّل اختلافاتنا إلى خلافاتٍ تُذهب ريحَنا: ﴿وَلَا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ﴾ (الأنفال: 46)
لعلّها الحرب الأخيرة، تلك التي تمهّد ليوم القيامة والمذكورة في نصوصنا. فما عذرُنا عن الغياب عن أعزِّ الساحات وأشرفها؟ ماذا سنقول لربنا؟ وبأيّ وجهٍ سنقابل رسولنا صلى الله عليه وآله وسلم؟
هل تُشفع لنا عصبيّاتُنا وفرقتُنا وخذلانُنا؟ بأي أعذارٍ سنجتاز الصراط؟ وهل سنحظى بنظرةٍ تُطمئننا من الحبيب ﷺ، أو شربةِ ماءٍ تروينا، وأجسادُ أهلِنا تتضوّر جوعًا، ولا ماءَ يرويها ويهدّئ روعَها؟
إن العدوان على غزة لم يكن الأول، وإن كان الأعنف. وما كان للعدو أن يتجرّأ على فعلته الشنيعة وإمعانه في التنكيل بأهلنا، لو أن المسلمين وقفوا له بالمرصاد منذ قيام هذا الكيان. فالعدو يُمعن في جرائمه لأنه يعلم يقينًا أنه نجح في تغييب الوعي بمركزية قضية فلسطين من وجدان أبناء هذه الأمة.
فلسطين تعاني منذ أكثر من ثمانين عامًا، ولو راجعنا برامجنا التعليمية والتوعوية خلال هذه العقود، لوجدنا غيابًا كبيرًا لفلسطين عن حياتنا. فلا حواضر دينية تكلّمت عن هذه القضية رغم أهميتها، خصوصًا ارتباطها بأحداث آخر الزمان، ولا منابر بيّنت إجرام العدو واحتلاله لأرض المسلمين.
حتى وسائل الإعلام، بل وحتى أدبيات حركات الإسلام السياسي، خلت من قضية فلسطين، إلا من استخدامها أداةً لاستقطاب الموالين، لا بوصفها قضيةً مركزيةً ومصيريةً في حياة الأمة.
أما زيارة بعض رجال الدين من أوروبا إلى كيان الاحتلال مؤخرًا، فلا وزن لها في ذاتها؛ لأن هؤلاء لا وزن لهم أصلًا. لكن الخطير هو الترويج الإعلامي لها، إذ قد يسعى العدو إلى تكرارها، وقد تشمل لاحقًا رجالَ دينٍ من عالمنا العربي والإسلامي، وقد ينجح فعليًا في استقطاب عناوين كبيرة من داخل حواضرنا الدينية.
وعليه، يجب ألا نمنح العدو أيّ مجالٍ للمناورة في هذا الحقل، لأنه يُمثّل ركيزةً أساسيةً من ركائز وحدة الأمة. فبعد نجاح العدو في تمرير “إبراهيميتِه” عبر أصحاب القرار السياسي، فهل يسعى اليوم لتلوينها بالصبغة الدينية عبر رجال الدين؟
وهل سيضحك بذلك على لحانا وعمائمنا؟!