منَ المولد إلى المسْرَى.. مسيرةُ كرامةِ واحدة
مولدُ المصطفى الأكرم صلى الله وبارك عليه وعلى آله وصحبه مناسبةٌ لا تُحصَر بركاتها في يوم من أيام العام، بل هي ساريةٌ عبر الزمان، مبثوثةٌ نفحاتُها في الإنسان والمكان والجماد والحيوان.
ولقد كان لبعض البقاع والأمكنة حضورُها المميز في المسيرة النبوية الشريفة، ولاشكّ في أنّ مكة والمدينة المكرَّمتين المنوَّرتين هما على رأس قائمة هذه البقاع المباركة، حيث شهدت الأولى بزوغ أنوار الطلعة النبوية، وكانت الثانية مستقرَّ الرسالة وحِجْر الدعوة ومطلع شمسها على باقي أرجاء العالم.
ومما لا شك فيه أنّ القدس الشريفة المباركة هي ثالثة هذين الحرمين، ليس باعتبار وجود المسجد الأقصى فيها فحسب، ولكن لناحية الإسراء والمعراج، الذي شكَّل فتحًا كبيرًا في الحياة الشخصية للنبي المصطفى “ص” أولًا، ومرحلةً فاصلة في تاريخ رسالته ودعوته ثانيًا، وحدثًا مفصليًا في تاريخ مدينة القدس وحضورها الممتد حتى يومنا هذا.
ومن هنا لا يمكن التعامل مع القدس الشريف، ومع كل القضايا التي تتصل بها، كما نتعامل مع أي مدينة أخرى مهما بلغت أهميتها، وهذا الحكم يجري على الدول وسياساتها كما يجري على الأفراد، فسيادة القدس وكرامتها هي جزء أساسي من سيادة الأمة وكرامتها، ولا يحقّ لأي كيان سياسي أو زعامة مؤقتة أن يمضي قرارًا أو يوقع على اتفاق يؤثر في مكانة القدس وما يلوذ بها، ولا يمكن لأي مسلم أن يدعي الإيمان بصاحب المولد “ص” والانتماء إلى أمَّته، ثم يُعرض عن القدس، أو يفكر في التنازل عنها أو التفريط بحقوقها.
(قُل لَّا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَىٰ) آيةٌ كريمة لا يمكن التعامل معها على سبيل التخيير أو الاستحباب فحسب، ولذلك فإنَّ مودَّة النبي “ص” في قرابته، ولأجل قرابته، وتوقيرَه فيها هي مودةٌ واجبة في عنق كل مسلم كأشدِّ ما يكون الوجوب، وحفظُ كرامة هذه القربى هي حفظ لكرامة النبي الأكرم “ص”.
ونحن نقول هنا: كما أنَّ مكة وأهلَها في عقيدة كل مسلم ينتمون إلى قربى رسول الله “ص” بنوع من الانتماء، وكذلك المدينة المنورة وأهلها ينتمون، وأنَّ حفظ حُرمة مكة والمدينة وصيانة كرامة أهلها هي جزء من حفظ كرامة الرسول الأكرم “ص”؛ فإنَّ الأقصى والقدس، وبالتالي فلسطين كلّها والفلسطينيين جميعًا، هم جزء من هذه القربى التي نحن مأمورون بمودتها وحفظ كرامتها، ولا يمكن للإنسان أن يجمع بين مودة المصطفى “ص” وتضييع مودة وكرامة فلسطين والفلسطينيين.
نعم إنهم قربى رسول الله “ص”، وهم يدفعون ثمن عظيمًا لهذه القربى، من خلال تصديهم للهجمة الاستعمارية الوحشية عليهم، وصمودهم وكفاحهم في وجه الاحتلال الغاصب، وتقديمهم لشتى أصناف التضحيات في الأنفس والأبناء والأزواج والأموال فداء لكرامة المسرى، التي هي كرامة مكة المكرمة وكرامة المدينة المنورة دون انفصال.
ولنا في موقف الأسرى الأبطال، وخاصة منهم ماهر الأخرس ورفاقه المضربين عن الطعام عبرةٌ ونموذج لهؤلاء القربى الذين يصونون كرامتهم عن أن يبتذلها المحتل بلقمة أو ترغيب أو ترهيب، وبذلك يصونون كرامة فلسطين وكرامة العرب وكرامة المسلمين وكرامة كل الأحرار، فلنكن معهم في هذه الصيانة وفي حفظ هذه الكرامة.
محمد أديب ياسرجي
أمين سر الملتقى العلمائي العالمي من أجل فلسطين