القادة الشـ.ـهداء: وداع وعهد

بقلم الشيخ محمد الناوي
(وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَتَّخِذَ مِنكُمْ شُهَدَاءَ) (آل عمران: 140)
سبحانه وتعالى من علمنا ألا نحكم إلا بعد علم، حتى لا نبني أحكامنا على الأوهام، ولا نظلم بكلامنا إنسانًا. وهو سبحانه من لم يسبق علمه جهل، فكان العلم صفةً من الصفات المصححة للفعل. فقوله تعالى: (وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَتَّخِذَ مِنكُمْ شُهَدَاءَ) يأتي بمعنى أن شرط الاصطفاء لمرتبة الشهادة لا يتحقق بالأوهام ولا بمجرد الإيمان العقائدي الذهني، وإنما بتكامل الإيمان، الذي يتطلب ربطًا وثيقًا بين العقائد المجردة وطرق تنزيلها على أرض الواقع.
لقد دفعت جبهات الإسناد أثمانًا باهظة في دفاعها عن مظلومية أهلنا في غزة، ويعلم الجميع، بغض النظر عن تلك الأثمان المؤلمة جدًا، أنه كان من الواجب شرعًا ألا نسمح للعدو بالاستفراد بالغزاويين، انطلاقًا من وجوب نصرة المسلمين الذين استُضعفوا وتعرضوا للتنكيل لعقود في فلسطين الحبيبة.
وما يميز هذه الجولة من المواجهة مع العدو هو الصمود الأسطوري للمجاهدين ولأهلنا في غزة، إلى جانب الحضور الفاعل لجبهات الإسناد، التي زعزعت أركان العدو بتهجير مستوطنيه، وانهيار اقتصاده، واختراق مراكز قوته، وإحداث شرخ كبير بين مكوناته، وإبراز جرائمه أمام أعين العالم حتى تم حشره في زاوية العار والإجرام. ولم يكن للعدو أن يصمد لولا الدعم الذي تلقاه من داعميه الغربيين، والخذلان الذي تعرضت له غزة من بعض أبناء جلدتنا.
وفي المقابل، لقد خسرنا في هذه الجولة الكثير من القادة الكبار الذين لن نستطيع تعويضهم، وكانوا لنا ظلًّا وأمنًا، فقد قضوا شهداء على طريق أقدس قضية (فلسطين)، وتركوا وراءهم إرثًا جهاديًا كبيرًا لتتعلمه الأجيال القادمة، التي سيتحقق على يديها وعد الآخرة بإزالة هذا العدو من الوجود.
لقد مضى الشهداء الأقدسون إلى حيث اختارهم الله، وهم “أحياءٌ عند ربهم يُرزقون” بعبارات القرآن الواضحة الدلالة، مضوا وقد عبّدوا لمن يخلفهم من الأحرار طريق العزة بدمائهم الزكية، وسجّلوا من خلال مسيرتهم الجهادية الحجة البالغة على كل الخلق بأن للحرية أثمانًا غالية يجب أن تُدفع، وأن دماء القادة هي التي تحفظ خط الجهاد والمقاومة وتصون للأمة عزتها.
لقد زرع القادة الشهداء في الأمة نباتًا حسنًا، زرعوا فكرة المقاومة من أجل كرامة الإنسان، وأحيَوا منهج الجهاد المحمدي، وحدّدوا بدقة وجهة البوصلة في عصرنا نحو القدس، ومحوا كل المسافات التي تفصل بين أبناء البشرية التوّاقة إلى الحرية والعدالة، مهما اختلفت توجهاتهم وتعددت طوائفهم.
لقد تركوا وراءهم الملايين من الشباب الذين سيخوضون عباب الطوفان القادم، وملايين من النساء الشريفات اللواتي حفظن العهد، وهن من سيربّين في الأمة أجيال التحرير الكامل لفلسطين.
وقد رسّخ الشهداء القادة حقيقة ثابتة تقول: إن العدو، في الغالب، يكون أكبر قوة وأشد بطشًا، لكن الشعوب هي التي تقرر مصيرها، وإرادة الشعوب هي التي تتحقق رغم أنف جبروت العدو، وهي التي تنتصر في النهاية. وقد رأينا ذلك في مشهدية العودة في غزة، وفي مشهدية العودة والتشييع المهيب في بيروت.
ويبقى على الشعوب الحرة حفظ الوصية الأساس، وهي بقاء المقاومة فاعلة في جميع الميادين، والوفاء للنهج الذي خلفه هؤلاء الشهداء القادة. وهي وصية الأنبياء والصالحين والشرفاء، والتسلح بالإيمان بوعد الله في نصرة المستضعفين، وبالإرادة القوية والصبر العظيم، لتستمر الحياة رغم كل الجراحات: (وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِندِ اللَّهِ) (الأنفال: 10)