غزة.. بين انكسار والانتصار
بقلم الشيخ محمد الناوي
﴿وَٱلَّذِينَ يُمَكِّرُونَ ٱلسِّيِّئَاتِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ ۖ وَمَكْرُ أُولَـٰئِكَ هُوَ يَبُورُ﴾ (فاطر: 10)
لا ينكر أحد حرج المرحلة التي يمر بها العدو رغم عربدته وتهوره في المنطقة؛ فمظاهر الخراب التي خلفها في عدوانه على غزة، وعشرات الآلاف من القتلى والجرحى في صفوف المدنيين، لا تُعد انتصارًا ولا إنجازًا يمكن البناء عليه، بل على العكس تمامًا؛ فقد دمر هذا التوحش كل مابناه من سمعة زائفة طيلة عقود.
فعلى المستوى الدولي، كان من المحرّم أن تُقال كلمة واحدة تنتقص من الصهيونية، ولم تكن الطرق الموصلة إلى سدة الحكم تفتح من غير مباركة من دوائر القرار التي تعمل لصالح الصهيونية العالمية، وقد رأينا بأم أعيننا كيف تتزاحم النخب على تلك المراكز لتنال دعمها ورضاها.
رأينا أيضًا كيف يُستعمل حق النقض (الفيتو) لعقود دفاعًا عن إجرام العدو، ورأينا كيف يُفرض الحصار لعقود على دول لأنها لم تقبل إجراء أي علاقة طبيعية مع هذا الكيان اللقيط…
لقد كان الشعار الزائف (العداء للسامية) أقوى سلاحٍ يشهره العدو لمعاقبة من تسول له نفسه توجيه أدنى انتقادٍ له، حتى جعله كيانًا فوق كل القوانين، وباتت قرارات كل المنظمات الدولية مكبّلة عاجزة عن مواجهة عربدته وطغيانه.
في السابق، ولعقود مضت، لم تتجرأ أي جهة حقوقية ولا أي دولة أن تصدر قرارًا باعتقال أي مسؤول صهيوني على خلفية جرائمه، بالرغم من أن جرائم العدو قديمة وتسبق تأسيسه؛ فطيلة عقود ارتكب العدو أبشع المجازر وخرج نظيفَ اليدين دون أدنى محاسبة. ولا غرابة في ذلك، فالذي زرع في قلب منطقتنا لتفتيتنا واستعبادنا هو من أسّس منظمات المحاسبة، وهو من مولها وحدد قراراتها مسبقًا…
أما اليوم، وعلى المستوى الداخلي، فإن عنصر الشعور بالأمان لدى المستوطنين قد فَقَدَ بالكامل؛ حيث لا وجود للأمان، فلا يوجد استقرار. وقد شهدنا ذلك طيلة الطوفان، حيث كانوا يهرعون إلى الملاجئ عند كل صفارة إنذار، وهذه ليست الحياة الطبيعية التي ينشدها كل إنسان عاقل؛ لأن العيش تحت حماية القبة الحديدية والملاجئ لا يوفر الأمان المطلق لهم. كما أن لعنة الجغرافيا وإمكانية إطباق الحصار على الكيان أمر وارد في كل لحظة، حتى وإن سارت رياح التطبيع وفق هواه، لأن صراعه اليوم هو مع شعوب العالم قاطبة.
أما على المستوى الدولي فقد انهارت صورة العدو انهيارًا كبيرًا؛ فأصوات العالم أفرادًا ومؤسسات تعلن صراحة إدانتها لجرائمه، والمنظمات الحقوقية تصدر أحكامها بمحاسبة قياداته، وعواصم العالم شهدت تظاهرات حاشدة، وحكومات العالم محرجة أمام انكشاف جرائم العدو وأصوات شعوبها، وتعترف تباعًا بحق الشعب الفلسطيني في العيش بكرامة على أرضه. ومن داخل أكبر الدول الداعمة للعدو يتصدر المشهد اليوم الكثير من المسؤولين ممن عُرفوا بمواقفهم الصلبة في الدفاع عن العدالة الدولية؛ فهناك تحول جذري في وعي الشعوب، وهذا الوعي هو من أوصل سفن كسر الحصار إلى ضفاف غزة، وبدأ في افتكاك مواقع القرار من عواصم صناعة القرار.
إن الطوفان وما خلفه من دمار شبه كامل للحياة في غزة هو بمثابة تلك السفينة التي خرقها صاحبها لتبقى ملك أهلها، وهو ذاك الغلام الذي قُتلَ لحفظ قدسية مكانة الآباء، وهو ذلك الجدار الذي أقامه العبد الصالح لحفظ الحقوق من الضياع. إنه الانكسار الذي يليه الانتصار بمشيئة الله؛ ولن يضيع حقٌّ ما دام هناك نبض مقاوم. ولن يحدث إلا ما أراد الله بعلمه وعدله: ﴿سَأُنَبِّئُكَ بِتَأْوِيلِ مَا لَمْ تَسْتَطِع عَّلَيْهِ صَبْرًا﴾ (الكهف: 78).



