طـ.ـوفـ.ـان الأقصى: معراج الأمة إلى وحدتها وكرامتها
بقلم الشيخ محمد الناوي
يقول تعالى: ﴿سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَىٰ بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِّنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا ۚ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ﴾ [الإسراء: 1].
بين حادثتي الإسراء والمعراج وطوفان الأقصى تكمن أسرار الحياة، ومعها مفتاح الخلاص… ألف درس وعبرة مستفادة من المعاناة، والحصار، والعذابات، بين (شِعب أبي طالب في مكة) و(غزة في فلسطين). وبين أبطال الأمس واليوم، والأدوار التي لعبوها، سرٌّ كبير لا يدرك كُنهَهُ إلا من كان عبدًا لله حقًّا… إنه اليقين الكبير برب العالمين، بأنّه لو أُغلقت كل أبواب الأرض، فإن أبواب السماء تبقى مشرعة، حيث سلطان الله وقدرته في تحقيق وعده وتكفّله بنصرة عباده الصادقين.
ونحن نُحيي هذه الذكرى العظيمة (الإسراء والمعراج)، نتذكر ما سبق تلك الحادثة من استفراد القلة المؤمنة من قبل مشركي قريش، وإذلالها والتنكيل بها، ثم ما تبع ذلك من فقدان الناصر والمعين للحبيب المصطفى ﷺ في عام الحزن، وما تخلّل تلك الأحداث من هجرتين لحفظ النفس، وحصار اقتصادي، ومقاطعة قاربت العامين، عانت فيها القلة المؤمنة الجوع والإقصاء. كما نستذكر ما تحقق بعد تلك السنين الصعبة من عطاء إلهي لنبيه ﷺ، فاق به كل الأنبياء، حيث معجزة الإسراء إلى بيت المقدس وإمامته للأنبياء السابقين، ثم العروج به إلى السماوات العلى، ليرى ملكوت السماوات وأحوال الآخرة، ثم الإذن له بالهجرة، ليختم حياته الشريفة بنصر كبير وفتح عظيم، قال تعالى: ﴿إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ * وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجًا * فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّابًا﴾ [النصر: 1-3].
وبالعودة إلى الربط بين حادثة المعراج وما يحدث في فلسطين منذ النكبة، وما شهدناه مؤخرًا من طوفان كاد أن يجرف العدو ويزيله من الوجود، لولا خذلان القريب وغطرسة العدو، فإننا نرى بوضوح ذات المعاناة، وذات العزيمة في صلابة العقيدة وعظيم التضحيات.
ولعل العلامة البارزة في هذه المرحلة من المواجهة هي السبق للفعل الميداني ورجالاته في مختلف ساحات المواجهة على تحركات العلماء، حيث قدم أهل الميدان خيرة القيادات شهداء على طريق القدس، ومثلوا بوقوفهم إلى جانب غزة المعنى الحقيقي للوحدة بين المسلمين. لقد سطّرت دماؤهم الزكية معنى الأخوة الحقيقية، كما قال تعالى: ﴿إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ﴾ [الحجرات: 10]، فأرسلوا رسالة قوية لكل من يحمل مشروعًا طائفيًّا، بأن جراح ومعاناة المواطن الغزاوي السُّني هي عينها جراح وألم أخيه الشيعي في لبنان، والعراق، واليمن، وكل إنسان حر وشريف في جنوب إفريقيا، وأوروبا، ودول أمريكا الجنوبية. ومن المؤكد أن عزة المسلمين لن تتحقق إلا بوحدة صلبة، يرسّخ العلماء الربانيون دعائمها في أذهان كل مسلم، مفادها أن الاختلافات التي أورثناها التاريخ لا ينبغي أن تمنعنا من الالتقاء لأجل بناء الأمة الواحدة، التي أعدّها الله لمهمة وراثة الأرض في آخر الزمان.
بين فجر الإسلام وفجر الطوفان، يتكرر مشهد المعاناة والصبر والصمود؛ فسمية وياسر بالأمس، هم كل من فقدناهم في الطوفان، وبلال المعذَّب بالأمس يجسد معاناة أسرانا في سجون الاحتلال اليوم، وخط ابن أُبيّ بن سلول هو خط كل من خذل غزة.
دماء زكية لقادة عظماء لن نرى مثلهم بعدهم أبدًا، قدموا أرواحهم لأجل الأقصى، نفتقدهم كما افتقد الحبيب المصطفى ﷺ عمه حمزة يوم أُحد.
لقد أسّس طوفان الأقصى معراجًا للأمة في العمل الجاد على وحدتها، كطريق وحيد للانتصار على عدوّ هو في حقيقته واجهة لعالم الشر. وعلى الأمة أن تتعلم من الطوفان، وأن تستفيق من غفلتها، لتحقق عزتها وكرامتها. والحمد لله رب العالمين.