معيار الهزيمة والانتصار
في تعليقه على النهج الإجرامي الذي اتّبعه الكيان الغاصب لتدمير كل مقومات الحياة في غزة، يقول الدكتور أندرياس كريغ من قسم الدراسات الأمنية في كلية كينجز كولج لندن: (غالباً ما يُستَخدم التدمير المادي في “إسرائيل” معياراً لإظهار النجاح للشعب: أنظروا لقد نجحنا… لقد دمرنا غزة تماماً. لكن في الواقع هذا ليس معياراً للنجاح ولكنه معيار للفشل، وكلما دمَّرتَ أكثر خسرتَ أكثر؛ وأكبر خطأ كانت تعاني منه “إسرائيل” ولا تزال هو أنهم كانوا يقاتلون فكرةً في عقول الناس، فكرة المقاومة، وهذه الفكرة أكبر من حماس).
تتأكد صدقية هذا الحكم المحايد من خلال مشهد العودة التي أصرّ عليها مئات ألوف النازحين، الذين تدفقوا في نهر بشري عظيم نحو مناطق شمال غزة، منذ إعلان وقف العدوان، وكأنَّهم في يوم البعث والحشر، أو كأنهم حجَّاج يندفعون من صعيد عرفات ساعةَ الإفاضة، في حركة قدسية ألهبت مشاعر كل المتابعين، وأرسلت الدموع والعَبرات من المحاجر، ناهيك عن صيحات العزة التي خرجت من أفواه الأطفال والنساء والرجال، والتي تمثّل تلك الفكرة الحيّة، غير القابلة للانهزام بفضل الله، فكرة الثبات والتمسك بالحق رغم التضحيات، والمقاومة حتى تحرير الأرض والإنسان.
على الجانب الآخر من شمال فلسطين، وفي مشهدية تحاكي تلك التي في غزة، كان أبناء الجنوب يتدفقون أيضاً نحو القرى والبلدات اللبنانية التي دمّرها الاحتلال، ولا زال قابعاً بآلياته العسكرية على أراضي عدة قرىً منها، إلا أنَّ ذلك لم يمنع المواطنين اللبنانيين من العودة السريعة، وكأنهم على موعد مقدَّس يخشَوْن فواته، غير مبالين بالأخطار، ورغم استشهاد عدد منهم بنيران الغدر الصهيوني أثناء تفقّدهم لبيوتهم وأراضيهم.
إنَّهما جانبان من صورة واحدة، يتعامى عنها الصهيوني المجرم وداعموه، في محاولة لإقناع أنفسهم بالاستمرار على نهج الإبادة، رغم عشرات الحالات والحروب التي أثبتت أن انتزاع الإرادة من هذه الشعوب أمرٌ غير ممكن، وأنَّ القتل والتدمير لا يزيدان هذا الكيان إلا مسامير جديدة في نعش الاحتلال، ويؤكدان أنّ استمرار وجوده مستحيل في هذه الأرض مهما طال الزمان، وكيف يبقى وهو الحريص على تدمير أي خيط يمكن أن يصله بالناس، أو يؤسس لعلاقات إنسانية صحيحة، أو يدعم إمكانية قيام دولة ذات علاقات طبيعية مع جيرانها !
إذن ليست فكرة المقاومة فقط من تؤكد زوال الاحتلال، ولكنه نهج القتل والعدوان، فخمسون ألف شهيد في غزة تعني خمسين ألف سبب لاستمرار رفض هذا الكيان الغاصب، ومثلهم خمسة عشر ألف مفقود تحت الركام، وعشرات آلاف المنازل ومعها المستشفيات والمدارس والمساجد والكنائس كلها تعني عشرات آلاف النوافذ المشرعة على أمل التحرير والمبشرة بزوال الاحتلال.
وهنا يقف الإنسان مستغرباً أمام تصريحات المسؤولين الغربيين، الذين يطلقون أفكاراً ويقدمون مقترحات وكأنهم في اليوم الأول من الحرب، بل وكأنهم لا يزالون في عام 1948، وهم يخططون لتهجير الفلسطينيين وتحويلهم إلى لاجئين في الأردن أو سيناء، ومن أجل بناء غزة على مقياس عقل ترامب أو نتنياهو للنظافة والاستقرار.
إنَّ مثل هذه الدعوات دليل جديد يؤكد أن الشعب الفلسطيني هو المنتصر، فما دام عدوك لا يتعلم من التجارب، وما دام يصرّ على التمسك بالأدوات نفسها التي أثبت الواقع فشلها، وما دام لا يستطيع هذا العدو أن يفهمك ولا أن يتوقع أفعالك، فهو عدو منهزم لا محالة.
نعم. لقد خسرنا الكثير من الأحباب والقادة والبيوت العزيزة التي بنيناها بجهدنا خلال سنوات، وكل ذلك يؤلمنا، لكن أحبابنا شهداء، وأموالنا التي بددها العدوان ذهبت في سبيل الله، ونحن نرجو من الله كل خير ونثق بحكمته ورحمته وعدالته، وهذا هو معيار الهزيمة والانتصار، فالحقّ لنا بإذن الله، وليس للمعتدي إلا الخسران، ولا حول ولا قوة إلا بالله.
أمانة سر الملتقى العلمائي العالمي من أجل فلسطين