أحداث غزة بين الثبات والضياع
الأستاذ الدكتور الشيخ علاء الدين زعتري
لقد أظهرت أحداث غزة المؤمنة، غزة الصابرة، كثيراً من المعاني والمفاهيم الإيمانية، فكانت ابتلاءً على أهل غزة، وامتحاناً للمسلمين أجمعين، وتمحيصاً للمؤمنين، وبياناً لحقيقة الإنسانية.
يقول الله تعالى: {وَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ آَمَنُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْمُنَافِقِينَ} [العنكبوت: 11]، فأظهر الله حقائق الإيمان وأثرها على أرض الواقع، وهذا مما يزيد المؤمن يقيناً، ويزيد أهل هذه المعاني ثباتاً على دينهم وجهادهم.
فما حصل في غزة ليس شراً محضاً، بل فيه خيرٌ كثير؛ يعرفه مَن نوَّر الله بصيرته بالإيمان.
قال الله تعالى: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُون} [البقرة: 216].
ومن تابع الأحداثَ، ومجرياتِ الأمور، وشاهدَ ما حصل لأهل غزة، وما تبع ذلك من تصريحاتٍ، وبياناتٍ، وفتاوى، ومظاهراتٍ، ظهر له جلياً الفرقُ بين دراسة مسائل الإيمان نظرياً في المساجد والفصول الدراسية، وبين تطبيق مقتضياتها في ميادين الجهاد وعلى أرض الواقع؛ حيث تُمحَّص القَناعات، ويظهر أثرُ اليقين على النفوس، ويثبِّتُ الله من أراد به خيراً من أهل الصدق وحسن التوكل عليه، ويوفقه للعمل بمقتضيات الإيمان والتقوى.
فقد جمع الله لأهل الثغر الفضائل، فعُرِف المؤمنون الصادقون، بدلالة ثباتهم ورسوخهم، وصدقِ اللجوء إلى الله عز وجل، مع حسن توكلٍ عليه.
وظهرت معاني الأخوة الإيمانية، مع اليقينِ بموعودِ الله ونصره.
وفي المقابل: هناك قوم سقطوا في الفتنة، ونقضوا إيمانهم، بمظاهرة المحتلين المجرمين. قال الله تعالى: {ألا في الفتنة سقطوا} [التوبة: 49].
أمّا الإيمانُ بقضاءِ الله وقدرِه: فقد تجلَّى واضحاً في أحداث غزة، حيث شاهد الناس على الشاشات الإعلامية من فقدوا جميع أهليهم وذويهم أو أكثرهم والطائرات فوق رؤوسهم وهم يرددون: الحمد لله، نحسبهم شهداء عند الله، وغيرها من العبارات الإيمانية، فلله درُّهم!
أمَّا المجاهدون فقد ضربوا أروع المثل بإيمانهم؛ صبرٌ بلا جزع، ورضىً بلا هلع، رغم القتلٍ والتدميرٍ والجروحٍ والقروح، والألمٍ والجوعٍ. قال الله تعالى: {قُلْ لَنْ يُصِيبَنَا إِلَاّ مَا كَتَبَ اللهُ لَنَا هُوَ مَوْلَانَا وَعَلَى اللهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ} [التوبة: 51]، ولننتبه لقوله {لنا} حيث لم يقل: (علينا).
وأمَّا صدق اللجوء إلى الله والتوكل عليه: فقد انقطع حبل التوكّل بين المجاهدين في غزة وبين الخلق أجمعين، فقد سمعنا مراراً تصريحاتِ عددٍ من مسؤوليهم وقادتهم، وهم الصادقون والمتوكلون على ربهم؛ وقد أخذوا بكافة الأسباب الممكنة عسكرياً وسياسياً، ثم فوضوا أمرهم إلى الله ولم يركنوا لسواه مع علمهم بأن كبرى دول العالم ضدَّهم، يخوفونهم ويهددونهم. والله تعالى يقول: {أَلَيْسَ اللهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ، وَيُخَوِّفُونَكَ بِالَّذِينَ مِنْ دُونِهِ وَمَنْ يُضْلِلِ اللهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ} [الزمر: 36].
فلا أمل يرجى من مجلس الخوف (الأمن)، ولا من الأمم المتناحرة (المتحدة)، ولا منظمات تتدعي زوراً وبهتاناً (حقوق الإنسان).
وفي المقابل: كان الأمر امتحاناً وفتنة سقط فيها كثيرٌ من الزعماء.
أمَّا الأخوة الإيمانية: فقد ظهرت أسمى معانيها، قال الله تعالى: {وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ} [التوبة: 71]؛ فما أن اندلعت الحرب حتى هُرِعَ المسلمون من جميع أقطار المعمورة – عرباً وعجماً – يجأرون إلى الله تعالى بالدعاء في صلاتهم إحياءً لسنة قنوت النازلة، وتتابعت البيانات والفتاوى التي تدعو لنصرة إخواننا في غزة.
بل ظهرت الإخوة الإنسانية في أجلى صورها؛ حين خرج كثيرٌ من الناس بشتى أجناسهم وأعمارهم وطبقاتهم إلى الشوارع يطالبون بإيقاف الحرب.
ألا فليحذر كلُّ من أعان الصهاينة على قتل الفلسطينيين ومؤازريهم من مقت الجبَّار وغضبه وعقابه.
أما اليقين بموعود الله ونصره: فهذا من مقتضيات الإيمان بالله والتصديق برسوله صلى الله عليه وآله وسلم فقد جاء: “لَا تَقُومُ السَّاعَةُ حَتَّى يُقَاتِلَ الْمُسْلِمُونَ الْيَهُودَ فَيَقْتُلُهُمُ الْمُسْلِمُونَ…” فمن مقتضيات الإيمان بالنبي صلى الله عليه وسلم تصديق هذا الوعد بأن نهاية المشروع الصهيوني حتمية، في الزمن شيكة الحصول.
فأبشروا وأمِّلوا، وأحسنوا الظنَّ بربكم، فالنصر آت، وانصروا الله ينصركم، {وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ} [الحج: 40].
وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.