غزة.. صمود ونصر موعود
يقول الله تعالى في كتابه الكريم: (قَالَتِ ٱلۡأَعۡرَابُ ءَامَنَّاۖ قُل لَّمۡ تُؤۡمِنُواْ وَلَٰكِن قُولُوٓاْ أَسۡلَمۡنَا وَلَمَّا يَدۡخُلِ ٱلۡإِيمَٰنُ فِي قُلُوبِكُمۡۖ وَإِن تُطِيعُواْ ٱللَّهَ وَرَسُولَهُۥ لَا يَلِتۡكُم مِّنۡ أَعۡمَٰلِكُمۡ شَيۡـًٔاۚ إِنَّ ٱللَّهَ غَفُورٞ رَّحِيمٌ). (الحُجُرَات14)
تعلمنا في حواضرنا الدينية الممتدة تاريخياً وجغرافياً ما يصطلح عليه بأصل الإيمان وكماله.. وظلت هذه المصطلحات باردة في أذهاننا تبحث عن ترجمان من الواقع تتجلى فيه كل معاني المصطلحين عقيدة سليمة في حركة الحياة، حتى جاء طوفان الأقصى وبدأ المسلمون يكتشفون فهماً عميقاً لعقائدهم يلامس الواقع بشكل أقوى، بعيداً عن المجردات التي ألفوها، وقد قدم الغزيون وكل جبهات الاسناد بالقول وبالفعل ما لم عن يقدمه المنشغلون بالتدريس في حواضرنا وجامعاتنا الإسلامية لقرون وعقود..
لقد شاء الله أن يجري تجليات اليقين والتسليم على ألسنة الصفوة المقاومة والصابرة من خلقه ليترجموها أفعالاً في ميدان المواجهة مع العدو، فيحرك عز وجل الأسباب ليصنع على عينه عباداً له بحق وحقيقة..
ونحن نتابع كل لحظة ما يجري في غزة ونرى أساطير الصمود لشعبنا الأبي والصابر والمحتسب وكذلك نلحظ إبداع مقاوميها في الميدان، تعبر أمام أعيننا مشاهد لأطفالها، بل أقول لرجالها لأن عمر الإنسان يقاس بكلماته ومواقفه التي تدل على رجحان عقله، وكلمات أطفال غزة الرجال مما يجب التوقف عندها لنتعلم منها الكثير والكثير.
في كلمات أطفال غزة نسمع على سبيل المثال: (الله أحسن من دباباتهم وطياراتهم) فنقرأ من خلال هذه الكلمات البسيطة الصفات المصححة للفعل من قدرة وإرادة وعلم وحياة.
فقدرة الله أعظم من تلك الآليات، وإرادة الله هي المهيمنة على كل شيء في هذا الكون، وعلم الله أعظم من علم هؤلاء إذ أن علمه تعالى لم يسبقه جهل كما هو حال هؤلاء المجرمين الذين يظنون أنهم قد سبقوا غيرهم فسيطروا عليهم بقوة العلم لصنع آلة الدمار لتفتك بالمستضعفين هنا وهناك، وحياة الله أزلية أبدية لم يسبقها ولن يلحقها العدم وبالتالي فالتمسك بالخالق والتسليم له والتوكل عليه سيمنح صاحبه قوة روحية عظيمة وعمراً لإحقاق الحق يكون أبدياً مهما كان ضعيفاً كما جاء في قوله تعالى:(أَلَيۡسَ ٱللَّهُ بِكَافٍ عَبۡدَهُۥۖ وَيُخَوِّفُونَكَ بِٱلَّذِينَ مِن دُونِهِۦۚ وَمَن يُضۡلِلِ ٱللَّهُ فَمَا لَهُۥ مِنۡ هاد). (الزُّمَر36)
ستة أشهر مرت على طوفان الأقصى الذي عبر بهذه الأمة إلى ضفة الفعل ونقل القضية المركزية للمسلمين من طور النسيان والتضليل الدولي إلى أوج الصدارة في إحقاق حقوق المظلومين وكشف زيف كل المنظمات الدولية التي كانت ولا تزال تمثل أداة و مرتكزاً قانونياً لهيمنة الاستكبار العالمي..
لقد كان من المفروض جداً أن تزحف كل الشعوب المسلمة في اليوم الأول لطوفان الأقصى باتجاه فلسطين لتحررها ولكن هذه الأمة لم تفعل ذلك ليس لأنها تشك في حقها باسترجاع أرضها ومقدساتها، وليس لأنها قد قيمت إمكاناتها المادية الضعيفة في مقابل إمكانات العدو الهائلة، فالمسألة وما فيها هو أنه قد تم استحمار عقل هذه الشعوب وتم إذلالها والتنكيل بها روحياً لعقود، بل ولقرون في تحالف للشر من داخل جسدها مما جعلها تشعر باليأس وبالملل وبالبرودة حتى اعتادت مشاهد التنكيل اليومية بكل بشاعتها و وحشيتها..
هذا التخلف عن الحضور الميداني القوي والمستدام بنفس الوتيرة أساسه الأنظمة العميلة للغرب التي التزمت بأن تكون حزاماً آمناً لكيان العدو ومصالح القوى الكبرى وكذلك فشل رجال الدين المتراكم في فقدانهم لمرجعية الفعل والحركة في حياة الناس، فالحكام عملوا على كبت حريات شعوبهم وقضوا على كل تجمع مدني وكل فكر واع يحمل قضايا الأمة، وأما رجال الدين فقد حصروا الدين في طقوس بين العبد وربه فلم يعد لكمال الإيمان من معنى عندهم أكثر من أن يؤدي المسلم شعائره العبادية، و فصلوا مفهوم ولاة الأمور عن ولاية الله ورسوله ليجعلوا من الحكام الآمرين والناهين بوحي أهواءهم وبرسم مشغليهم.. بالطبع، الاستثناء قائم، فالله رجال ينطقون بالحق في كل زمان ومكان ليكونوا حججه على خلقه (يَوۡمَ لَا يَنفَعُ ٱلظَّٰلِمِينَ مَعۡذِرَتُهُمۡۖ وَلَهُمُ ٱللَّعۡنَةُ وَلَهُمۡ سُوٓءُ ٱلدَّارِ). (غَافِر52)
كيف لهذه الأمة أن تزحف نحو تحرير مقدساتها وأن تستجيب لصرخات المظلومين من أبناء دينها وأنت تسمع في وسائل إعلامها كل كلمات التثبيط بل والتجاهل التام لما يجري في غزة، وتسمع من صديقك كيف يحسب حساباته على أساس القوة المادية للخصم وتسمع من إمام خطيب في يوم جمعة خطبة كاملة حول أهوال القيامة وعذاب القبر ثم يمر مرور الكرام على غزة في آخر كلامه بدعاء من كلمتين..
إننا لا ننكر ضرورة الإعداد المادي لمواجهة العدو وهذا ما قام ويقوم به المجاهدون في غزة وعلى امتداد جبهات الإسناد، ولكن كمسلمين، عندما نستنفد طاقتنا في الإعداد ننتظر الإمداد من مسبب الأسباب، ونتوكل عليه توكلاً مطلقاً انطلاقاً من عقيدة أن الله هو المهيمن على كل حركات وسكنات هذا الكون..
فاستيعاب العقيدة الصحيحة هو من جعل سحرة فرعون يواجهونه وهو في أوج قوته واستكباره وبطشه بأن يقولوا له كما جاء في قرآننا:(فَٱقۡضِ مَآ أَنتَ قَاضٍۖ إِنَّمَا تَقۡضِي هَٰذِهِ ٱلۡحَيَوٰةَ ٱلدُّنۡيَآ). (طه72).
وحمل العقيدة الصحيحة هو من جعل المؤمنين من الأولين والآخرين يصبرون على استضعافهم ولا يحيدون عن الحق أبداً، والتلبس باليقين التام في وعد االله بنصرة المظلومين هو من دفع بالثلة المجاهدة والصابرة في غزة أن تنفذ عملية طوفان الأقصى.
لقد آن الأوان للعلماء المؤتمنين على هذا الدين العظيم أن يراجعوا كلماتهم وهم يخاطبون الأمة من على منابر الحق، أن يبنوا العزة وفخر الانتماء لهذا الدين من خلال ربط المسلمين بدينهم ومقدساتهم وأن يسعوا ليجعلوا من المسلم في فكره وتوجهاته الصانع لمعادلات الحياة، الحارس لهذا الكون من كل من يريد الهيمنة عليه بالباطل تماماً كما يحرس المجاهدون في اليمن العزيز اليوم الممرات المائية الدولية من أن تكون مجالاً حيوياً لأهل الباطل للاعتداء على المسلمين والمستضعفين..
وعلى العلماء المؤتمنين على هذا الدين أن يخرجوا بفقه يلامس الواقع ليكونوا الساسة الذين يرسمون المعادلات وليربوا الأجيال على الحضور الفاعل في الميدان في كل حال وحين وأن تعمم التجارب الناجحة التي أسستها دماء العلماء الشهداء على كامل أوطاننا لنأخذ منها ما يناسب كل بلد من بلداننا..
لقد عاشت المؤسسة الدينية قديماً وحديثاً تحت جناح الحاكم العادل والظالم على السواء، وبدلاً من أن تكرس سلطتها الروحية الكبيرة في نفوس الناس لتوجه الحاكم نحو خدمة قضايا الأمة الكبرى، نراها بين الحين والآخر تتحرك بخجل لتراعي مشاعر وأحاسيس الحاكم الظالم أو لتبرر له مواقفه التي تتماهى ومسارات الخيانة كالتطبيع مع العدو أو الخنوع والخضوع للتفريط في سيادة دولها وهذا مما لا يليق بمن هم ورثة للأنبياء في حمل رسالة السماء.
ومما تجدر الاشارة إليه، أن الأنبياء والمصلحين حافظوا دوماً على مستوى عال من الجاهزية الروحية والمادية للمؤمنين بمنهجهم وهذا ما لم نعمل على بناءه في شخصية المسلمين، فخطبنا ودروسنا موسمية، وقراءتنا للتاريخ قراءة سردية تتحدث في مسار الأحداث التي عاشها المسلمون الأوائل وليس في عللها وطرق تفكير ونظرة من صنع تلك الأحداث، ومن هنا نرى المد والجزر وعدم الثبات في حركة الشارع العربي والإسلامي في دعمه لغزة رغم المجازر اليومية المروعة.
فلقد تحرك الشارع الغربي ولا يزال يتحرك بزخم كبيرو بعنوان الإنسانية أكثر مما يتحرك الشارع العربي والإسلامي بالرغم من أن القضية الفلسطينية هي قضية إسلامية مركزية مرتبطة أساساً بالقبلة الأولى ..
إن الصراع بين الحق والباطل مستمر الى قيام الساعة، وما عانيناه من ضعف ووهن في جبهاتنا الداخلية في الماضي يجب أن يتوقف وعلينا العمل على تفاديه في المستقبل، وعلى الحكام والعلماء والشعوب والأفراد أن يلعب كل دوره في إعزاز الأمة والدفاع عن مقدساتها وأولها فلسطين والأقصى، ولئن انكسرنا في العديد من المحطات، فبيننا وبين أعداء الأمة صولات وجولات يجب أن ننتصر فيها أولاً وأخيراً لله.. (يَٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُوٓاْ إِن تَنصُرُواْ ٱللَّهَ يَنصُرۡكُمۡ وَيُثَبِّتۡ أَقۡدَامَكُمۡ ﵞ). (مُحَمَّد7).
وإذا أردنا أن نكون بمستوى المسؤولية الدينية والأخلاقية فعلينا العمل الجدي لإنتاج مرجعيات دينية ميدانية فاعلة مساندة لأهلنا في غزة وكل فلسطين تكون الرديف لجبهات الإسناد الجهادية العاملة اليوم وتكون الحاضنة لها والمثبتة لجميع إنجازاتها الميدانية حتى يتحقق النصر والتحرير الموعود بإذن الله تعالى..