الكلمة العليا لإرادة التحرير
بعد 258 يوماً من العدوان على غزة، يتابع العدو الصهيوني ما بدأه منذ اليوم الأول، وهو حرب الإبادة والاستئصال الشاملة ضد الفلسطينيين في قطاع غزة، ونقول: “ما بدأ منذ اليوم الأول” تأكيداً على أنّ نية الإبادة والتهجير كانت مبيّتةً لدى الصهاينة منذ انطلاق الحرب، ولم يتدرّجوا في مستوى العنف والقتل ورفع سقف الأهداف وصولاً إلى الإبادة الجماعية.
كان الردّ على طوفان السابع من أكتوبر واضحاً لدى العدو من حينها، وإن قسمه على مراحل من حيث المناطق، لا من حيث الفتك والإجرام، ولا زال يتابع الخطة نفسها، تحت غطاء من الدعم السياسي والإعلامي الأمريكي، الذي يحاول الإيهام في هذه الأيام أن المقاومة هي من ترفض خطة السلام الأمريكية التي تبنّاها مجلس الأمن، بينما تغطي على الرفض القاطع للخطة الذي أبداه الصهاينة قولاً وعملاً.
وإذا كانت المقاومة قد تحفّظت على بعض الثغرات الخطيرة في الخطة، فلأنّ الفلسطينيين في الداخل يدركون حقيقة هذا العدو أكثر من أي إنسان آخر في العالم، ويعرف أطفال غزة الطبيعة الإجرامية وطريقة تفكير الصهاينة أكثر من أي خبير استراتيجي، لأنّهم يصبحون على تماسّ يومي مع هذا العدو في كل مفاصل الحياة منذ لحظة ولادتهم، فلن تجد في الدنيا أكثر منهم خبرة بالنفسية والعقلية الصهيونية !
وقد أثبتت التجارب الكثيرة التي خاضها الفلسطينيون أن الصهاينة لا يؤمنون بأي سلام، ولا يطمئنون إلى أي خيار سوى خيار استئصال الفلسطينيين من الأرض، وهذا ما بدأوه منذ 1948 ولا زالوا مستمرين فيه.
كما يعلم الفلسطينيون طبيعة العلاقة التي تربط الاستعمار الغربي بالمشروع الصهيوني، وهم متأكدون من أنّ كل مقومات الحياة والاستمرار لهذا المشروع تأتي من هذه الأنظمة الاستعمارية، وأنّه لا يمكن للفلسطيني أن يثق في الحقيقة إلا بخياراته وإيمانه وكفاحه، وأن لا صديق له في العالم إلا من يشاركه هذا النهج.
وعلى كل متوهم أن يعلم أن المشروع الصهيوني لن يقبل بحلّ الدولتين، وقد أصبح هذا معلوماً بالبداهة لكل عاقل، وأنّ “الدولة اليهودية” هي هدفه القادم الذي يسعى له الآن بالاستئصال العرقي الذي يمارسه، بعد أنّ مهّد له بتشريع العديد من القوانين، وأنّه ماضٍ من غير تردد في بناء المستوطنات في كل أرجاء فلسطين، وأنّ مشروع هدم المسجد الأقصى وبناء الهيكل قد دخل المرحلة التنفيذية، وأنّ تهجير أهالي القدس والضفة قادمٌ لا محالة، وأنَّ القتل والقتال والتدمير والإبادة مستمرة حتى تحقيق أهدافه أو… أو يكون للعالم العربي والإسلامي وأحرار العالم موقف آخر، موقف ينصر الحقّ الفلسطيني، ويضع حداً لهذا المشروع الإجرامي الخبيث الذي يزرع البغضاء والعنف والحرب في طريق تقدم الإنسانية.
لقد وعى الفلسطينيون تماماً أهداف المشروع الصهيوني، لأنهم هم ضحاياه الأوائل، ودفعوا ثمن تدبيرات الغرب في فلسطين من دماء خيرة شبابهم وأطفالهم وعلمائهم، وعانوا في كل لحظة من آثار ذلك في كل مفاصل حياتهم، وهم متأكدون من استمرار ذلك في المستقبل ما لم يكن لهم موقف عملي في مواجهة هذا المشروع الإجرامي.
ولم يكن طوفان الأقصى إلا جزءاً أخيراً من هذا الموقف العملي، بناه الفلسطينيون على حلقات سابقة بَنَوها منذ ثورة النبي موسى عام 1920، وراكموا الخبرات والتقنيات، وكان قرار المقاومة بالدفاع عن الأقصى قراراً واعياً للمخاطر والفرص المحتملة، وقد أثبتت الأيام من 7 أكتوبر أنّ ما أنجزه طوفان الأقصى على المستوى الصهيوني والعالمي أكبر ممّا كان يتخيّله أي إنسان، وأنّ موازين القوى بدأت بالتحرك والانقلاب، ولن تبقى الكلمة العليا إلا لإرادة التحرير وزوال المشروع الاستعماري وكيانه الغاصب من أرضنا.
بقلم الشيخ محمد أديب ياسرجي
أمين سر الملتقى العلمائي العالمي من أجل فلسطين