شاهدين على أنفسهم
الأستاذ الدكتور الشيخ علاء الدين زعتري
لقد أظهرت أحداث ما تجاوز زمنه السَّنَة في غزة هاشم وجنوب لبنان أن أسرى الصهيونية العالمية ليسوا وحدهم السياسيون؛ بل ومعهم في الأسر والتبعية: النخب الثقافية والفكرية والعلمية والفنية؛ والتي تتبجح بكونها منارات للحرية والمساواة وحقوق الإنسان.
فالفلاسفة لا يتفلسفون إلا بما يُسمَح لهم به، والمفكرون لا يُفكِّرون إلا في حدود مرسومة لهم، والحقوقيون لا يطالبون إلا بحقوق فئات معينة، أما ما يحصل في غزة ولبنان فيغضون الطرف عنه.
والأسوأ أن بعضاً من هؤلاء (النخب) يدعمون القاتل ضد المقتول، ويؤيدون التدمير، ويهللون ويستبشرون بمزيد من الإبادات والتهجير، ويقفون مع الظالم ضد المظلوم، ويصطفون مع الذابح ضد الضحية.
ومَن يتحدث منهم عن حقوق الشعب الفلسطيني أو يؤيد معركة الإسناد من لبنان ومن سائر محور المقاومة يتم تهديده حتى يذعن، بل تتم الإغارة عليه، وتدمير ما يصل إليه العدو الصهيوني؛ حتى ولو كان متحدثاً رسمياً باسم المقاومة، أو يعمل في مجال الصحافة والإعلام؛ ولو كان في الحقل التقني الفني.
والسؤال الكبير: ما الذي قدمته الفلسفات الغربية، وقد أمضت ثلاثة قرون تتحدث عن (القيم الكونية)، و(العدالة العالمية)، للقضية الفلسطينية ومؤازريها وداعميها عموماً، ولأهل غزة بوجه خاص في ظل المذابح والإبادات والتدمير والتهجير.
أين تلك الدراسات العلمية والأبحاث الفكرية عن فلسفات العدالة الإنسانية، وما تأثيرها على الأحداث: ستجدها في المجمل صامتة؛ لا تتكلم إلا في مصلحة العدوان الغاشم.
للأسف: تبين لكل ذي لب أن (الحياد والموضوعية) اللذين تدَّعيهما الفلسفة الغربية، والتعالي على الأديان؛ ما هو إلا قشور لحقيقة مفادها أن الفلسفات الغربية مفلسة تجاه القضايا الإنسانية، ومستهلَكة ومستنزفة وغارقة في الشكليات، بل ومكبلة بعقدة الذنب، وعاجزة عن قول الحق في الإبادة العرقية في فلسطين المحتلة، وسياسة التهجير القسري من لبنان.
ولا تُنكر بعض الأصوات الحرة في أوساط الفكر والفن؛ مما يدل على أن الضمير الإنساني بدأ يصحو شيئاً فشيئاً، وأن المستقبل للأحرار وأصحاب الحق؛ إلا أنه يبدو أن البشرية ستدفع ثمناً غالياً (استشهاد سادة وقادة وعدد كبير من الناس) حتى تصل إلى تلك النقطة من التاريخ.
ولربما يكون أكبر خاسر في هذه الأحداث (محسوب على النُخَب الثقافية والفكرية): هم علماء الدين؛ وبخاصة منهم علماء الدين الإسلامي، حيث إن كثيراً منهم – إلا مَن رحم الله – لم يقوموا بواجب القدوة المطلوبة منهم في مثل هذه الأحوال.
فأين (المجامع…)؟
أين (كبار العلماء)؟
أين (قادة المؤسسات الدينية)؟
لماذا آثر معظهم السكوتَ أو الانعزال؟
ولماذا لم يقوموا بواجب التوجيه والشهادة على الحق؟
إن حالة الاعتداء والعدوان من كيان قادته متهمون بجرائم حرب، وما يجري في فلسطين ولبنان كان ولا يزال امتحاناً عظيماً في الدنيا والآخرة.
وما منا من أحد إلا وهو جزء من هذا الامتحان، وعليه واجب تحمُّل مسؤوليته بقدر مكانه ومكانته، وعلى كل شخص أن يُعِدَّ جواباً للتاريخ في الدنيا، وليوم الموقف العظيم بين يدي أعدل الحاكمين.
أما الذين هم في أرض المعركة فقد نجحوا في امتحانهم، وفي شهادتهم، وفي صبرهم وفي صمودهم؛ حيث دافعوا عن حقهم المشروع، وعن كرامتهم، وقد أثبتوا أنهم يحمون الإنسانية من شرور الطغيان.
إن ما جرى ويجري ليُبَشِّر بميلاد جديد على أساس الحق والعدل والسلام.
سلام على كل ذي قلب حي.
سلام على كل مَن لم يرض بالظلم، ولم يصفق له.
سلام على كل مَن هو واقف في صف المظلوم ضد الظلمة العتاة.
سلام على كل حر يأبى أن يرى الإنسانية تُذبح أمام عينيه ويبقى صامتاً.