النَّصرُ أو التِّيْه
بمعاينة الشاهد يُعلَمُ الغائب، ومَن لم يَعتبر بما حضرَ فلن يدركَ ما فاتَه، ومن تأمل فيما يجري اليوم على الساحة الفلسطينية في غزة والضفة والقدس، علمَ حقيقة ما جرى عام 1948 وما قبلها، يوم أضاع العرب والمسلمون فلسطين، وفتحوا باب القتل والدمار على أنفسهم وإخوانهم حتى يومنا هذا.
ففي مثل هذه الأيام من عام 1948 غادر القائد عبد القادر الحسيني القدس متوجّهاً إلى دمشق، للاجتماع بقادة اللجنة العسكرية لفلسطين التابعة لجامعة الدول العربية، لعلّه يجد عندهم مدداً يستعين به المجاهدون المدافعون عن القدس، وهنا وقف الحسيني الموقف نفسه الذي يقفه أهل غزة اليوم أمام السياسيين وزعماء الدول والأمم المتحدة وجامعة الدول العربية والمحلّلين، الذي يدورون ما بين تشكيل اللجان واقتراح مشاريع القرارات وديبلوماسية المؤتمرات الصحفية واستجداء التصريحات؛ وكل ذلك بينما تتابع المدحلة الصهيونية افتراس غزة بالقتل والتدمير والاعتقال والتجويع.
في ذلك التاريخ طلبت اللجنة العسكرية من الحسيني عدم افتعال تصرفات فردية، كما يحصل اليوم عندما يزعمون أنّ المقاومة تتصرف بشكل فردي وهي من تسبَّب بما تعانيه فلسطين كلها اليوم، وطالبوه بعدم الذهاب نحو “القسطل” التي احتلّها الصهاينة كمقدمة لاحتلال القدس، فما كان من الحسيني إلا أن قال لهم: (إنني ذاهب إلى القسطل وسأقتحمها ولو أدَّى ذلك إلى موتي، والله لقد سئمت الحياة وأصبح الموت أحبَّ إليَّ بسبب هذه المعاملة التي تعاملنا بها الجامعة. وقبل أن أرى اليهود يحتلون فلسطين. إن رجال الجامعة والقيادة يخونون فلسطين).
وعاد الحسيني إلى القدس، وبتاريخ 6/4/1948 وجّه مذكرته الأخيرة والمقتضبة إلى عبد الرحمن عزّام، الأمين العامّ للجامعة العربية، مخاطباً الجامعة كلَّها: (إني أحمّلكم المسؤولية بعد أن تركتم رجالي في أوج انتصاراتهم بدون عون أو سلاح).
بعد يومين فقط استشهد الحسيني في قرية القسطل المقدسية، وكانت جنازته يوم الجمعة 9/4/1948، وهو اليوم نفسه الذي جرت فيه مذبحة دير ياسين !
نعم. إن رحيل القادة الذي يتمّ التمهيد له بخيانة الأقرباء وتقاعس القادرين، سيفتح بالضرورة باب الذبح على الأمّة، ولهذا أمثلة كثيرة في تاريخنا، وليس بعيداً عنه ما يجري اليوم في فلسطين.
لقد انتظرنا 40 عاماً بعد النكبة لكي تنطلق الانتفاضة الأولى وتُحدِث تحولاً جذرياً في مسار التحرير، ولكن تمّ استهلاك نتائجها في مشروع أوسلو الفاشل، وها هي المقاومة بعد 35 سنة من الانتفاضة تهدي إلى الأمّة طوفان الأقصى، الذي صنع تحوّلاً عالمياً غير مسبوق، فهل تستفيد الأمّة من بركات هذا الطوفان ؟ أم إنَّ المشاريع جاهزة لاستنزاف دماء الشهداء وعذابات الناس، وتحويلها إلى مسار آخر يخدم الكيان الغاصب، ويعطيه الفرصة لمتابعة مشروع التهويد في الداخل والتطبيع في الخارج ؟
في النهاية: لئن أضحى الكلام كثيراً فإنّ السكوتَ حرامٌ، وإنَّ النهي عن المنكر باللسان فريضة لا يُعذَر الإنسان بتركها وإن تقاعس القادرون عن العمل بموجبها، وعلى كل صاحب بيان أن يحذّر وينصح، وقد صدق من قال:
إنَّ هذه الأمة مخيّرة بين أن تنصر غزة التي أهدت لنا جميعاً نصراً غير مسبوق، وبين أربعين سنة تعيشها في تِيْهٍ وضلال واستعباد وذلٌّ وخنوع.
(قَالُوا يَا مُوسَىٰ إِنَّا لَن نَّدْخُلَهَا أَبَدًا مَّا دَامُوا فِيهَا، فَاذْهَبْ أَنتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلَا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ (24) قَالَ رَبِّ إِنِّي لَا أَمْلِكُ إِلَّا نَفْسِي وَأَخِي فَافْرُقْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ (25) قَالَ فَإِنَّهَا مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ أَرْبَعِينَ سَنَةً يَتِيهُونَ فِي الْأَرْضِ. فَلَا تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ (26).
بقلم الشيخ محمد أديب ياسرجي
أمين سر الملتقى العلمائي العالمي من أجل فلسطين