التطبيع ليس رأيًا

قضية فلسطين، وقضية القدس، وقصة الاحتلال، وقضية طرد السكان وتهجيرهم، وقضية القتل والتجويع ومنع الغذاء والدواء، وقضية محو الذاكرة وكيّها، وقضية خلط المفاهيم والتسوية بين الضحية والجلاد، وغيرها من القضايا، ليست قضايا خاضعة للرأي؛ لأنها عقائد ومفاهيم ثابتة لا تتغيّر.
فلسطين تاريخيًا لأهلها الأصليين، وهذا ما تثبته كل الوثائق الدولية والتاريخية. والقدس هي نهاية مسرى رسول الله صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم، وبداية معراجه، ومكان استقباله عند عودته من تلك الرحلة المعجزة. وأحداث التاريخ الموثقة دوليًا تؤكد وتوثّق بأن كلّ القادمين الغزاة ليسوا من أهلها ولا من نسيجها، وأنهم غرباء عن هويتها وجغرافيتها وديمغرافيتها، وأنهم هم الذين يجب أن يُغادروا ويعودوا من حيث جاؤوا، إلى بلادهم التي يحملون جنسيتها، وحيث مسقط رأس آبائهم وأجدادهم، الذين ينتمون إليهم عِرقًا ولغة.
ومن المؤسف أن ينسى كل ذلك بعضُ العرب والمسلمين، ممن خُدعوا بما يُسمى “السلام”، متناسين أن هذا الكيان الصهيوني المُسمى “إسرائيل” هو مشروع استيطاني إحلالي توسّعي ـ وهذا ما يُعلنه ولا يُخفيه، بل يُترجمه علمه ونشيده القومي ـ يقوم مشروعه على الدم والتهجير، واستنزاف الثروات، وتفكيك العائلات، وضرب منظومة الأخلاق عند الآخر. وهو لا يؤمن أبدًا بالشراكة، بل لا يؤمن بأن الآخر يستحق أن يعيش معه إلا خادمًا أو عبدًا.
ومن سخرية القدر أن الشعوب الحرة، غير العربية وغير المسلمة ـ من واشنطن وباريس وطوكيو ـ خرجت تندّد بالمجازر التي يرتكبها هذا الكيان الصهيوني بحق أهل غزة، بينما بعض العرب والمسلمين يُنظّرون للسلام والتطبيع والرفاه الاقتصادي الموهوم، ولو كان ثمن هذا الوهم دمَ الأطفال والشيوخ والنساء والمرضى والشهداء.
الفرق بين الشعوب الحرة، وبين الذين لم يعرفوا طعم الحرية، فسارعوا إلى الانحطاط الأخلاقي والسياسي، هو “القِيَم” كمنظومةٍ ضابطةٍ لحركة الجميع. التطبيع مع الكيان الصهيوني المحتل لفلسطين العربية والإسلامية ليس رأيًا، بل هو اصطفافٌ أخلاقي وسياسي إلى جانب الجلّاد المحتل القاتل، وهو خيانةٌ للدين، والتاريخ، والحرية، والكرامة.
من يُبرّر التطبيع مع العصابات المجرمة التي تحتل فلسطين، تحت أيّ ذريعةٍ كانت، فإنه يخون كل منظومة القِيَم التي يعيش عليها الأحرار. فالحرية التي لا تقف في وجه الطغيان والاستبداد ليست حرية، بل هي قناعٌ قذر لكل مشاريع الاستسلام والانحدار ونسيان الهوية والتاريخ.
لا يمكننا أبدًا أن نُضيّع بوصلة ضبط حركتنا نحو الحرية والكرامة. فعندما رفضنا الظلم والاستبداد والدكتاتورية من حُكّامٍ وضعهم الاستعمار، واستخدمهم لقهرنا وإذلالنا، قمنا بذلك من أجل استرداد كلّ ما نهبه هؤلاء المجرمون. ولا يجوز أن نرتمي بعد ذلك في أحضان كيان هو وكيلُ المستعمر، ويده التي يبطش بها منذ العام 1948 على أرض فلسطين وحتى الساعة، لأن ذلك سيكون عملية استبدالٍ قاتل، ليس أكثر.
منسق الملتقى العلمائي العالمي من أجل فلسطين