مقالات

ثنائية الكلمة والبندقية في طوفان الأقصى

بقلم الشيخ محمد الناوي

يقول تعالى: ﴿ إِنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ﴾ [غافر: 51]

   بين الابتداء بنون العظمة الدالة على مطلق القدرة والسلطان والتوكيد باللام المزحلقة في الفعل المضارع يتجلى الحضور الإلهي المؤكد الى جانب الحق والمحقين في نصرة قضايا العدل مهما اشتدت الصعوبات والمحن ومهما طغى الظالمون، فالمدد الإلهي لن يتخلف، والصراع مع الظالمين صولات وجولات، ومسيرة الصابرين سيتوجها رب العزة نصراً في الدنيا وفوزاً في الاخرة.

في خضم ما نشهده من هزات نفسية عنيفة وتضحيات جسام بحجم الجبال الراسيات من أهلنا في غزة، ورغم هول البطش وقلة الناصر وعموم ظاهرة الخذلان على امتداد جغرافية عالمنا الإسلامي، فلن يغير ذلك من حتمية وقوع وتحقق الوعد الإلهي، فما نراه من تدافع بين الحق والباطل ما هو إلا أسباب تمهد لتحقق النصر الموعود لتلقى الحجة كاملة على كل إنسان.

وفي ظل ما جرى طيلة الأشهر الماضية وإلى اليوم من استفراد وتنكيل بأهلنا في غزة، يطرح السؤال الذي طالما يراودنا: أين العلماء وأين حواضرنا الدينية الضاربة في أعماق التاريخ، فإذا كان العلماء هم المؤتمنون على الوحي، وهم ملجأ شعوبهم كمرجعيات طاهرة لاستصدار فتاوى تحفظ الإسلام والمسلمين، فلماذا لا نسمع صرخاتهم في تلك الحواضر، لماذا لم يعقدوا المؤتمرات ولماذا غابت غزة والقدس وفلسطين عن معظم الخطب والخطابات؟

   لقد قاد الأنبياء ومن بعدهم العلماء والمصلحون معظم حركات التحرر من الظلم، ووجدت فيهم شعوبهم الكهف الذي يحتمون به إذا استشكلت عليهم الدنيا بتشعباتها… ومن هذا المنطلق، كان الاستفهام عن الفراغ الذي تركه العلماء في طوفان غزة ومحنة غزة له مبرراته القوية.

فلو رجعنا إلى تاريخنا الحديث إلى ما قبل وما بعد الحرب العالمية الثانية، نجد الحضور العلمائي جلياً، من ثورة العشرين بالعراق إلى عز الدين القسام بفلسطين إلى عمر المختار بليبيا وإلى عبد القادر الجزائري والثعالبي التونسي، ثم من بعدهم في العقود الأربعة الأخيرة أخذ التحرك العلمائي أشكالاً تنظيمية أخرى، فنشأت حركات مقاومة كما نراه اليوم في فلسطين ولبنان واليمن والعراق بقيادات علمائية تخرجت من الحواضر الدينية التقليدية ولكن رأت في العمل الجهادي الميداني خلاصًا للأمة، وفعلاً اختصرت على الأمة زمن خلاصها وقدمت لأجل ذلك أرواحها على هذا الطريق العظيم.

 لقد لمس الجميع الفتور الكبير في العلاقة بين أقدس القضايا (فلسطين) وبين مرجعياتنا الدينية التاريخية، وبدل أن يستثمر العلماء في الطوفان وينفخوا في روح شعوبهم ليحيوا فيهم فريضة الجهاد، لمسنا منهم حرارة في البدء وسرعان ما خمدت تلك الجذوة وليعودوا ويغرقوا في مطولات اللغة والفقه والعقيدة دراسة وتدريساً، ونسوا ترتيب الأولويات في هذه المرحلة، والأسباب في ذلك كثيرة ولسنا بصدد البحث فيها وإنما نريد أن نؤكد أن واقعنا يفرض على العلماء القيام بدورهم كونهم يبقون محور المحور والمسؤول أمام الله وأمام شعوبهم.

لا أحد يمكنه أن يستهين بدور العلماء كونهم هم الناطقون بالحق عندما يعز المحقون، وكونهم يتمتعون بمجال حيوي واسع وكبير حيث يملكون قلوب وعقول الناس ويتواصلون معهم بشكل يومي، ويتحتم عليهم أن يقوموا لله وللمستضعفين في غزة وأن يحركوا الشارع للضغط على حكوماتهم وعلى جميع المؤسسات الدولية لوقف العدوان، وليفعلوا حركات المقاطعة لأي منتج يدعم الكيان المحتل بإصدار فتاوى تحرم استهلاك تلك المنتجات، كما يمكنهم أن يضغطوا على الحكومات المطبعة مع العدو لقطع تلك الاتفاقيات المذلة والمخالفة لشرع الله…فلو تحرك العلماء بقوة منذ بدايات العدوان على غزة لتوقفت الحرب منذ أسابيعها الأولى لأن العدو يدرك أن قيادة العلماء لأي تحرك ميداني سيكلفه الكثير.

إنه على العلماء وخصوصاً أصحاب القرار والتأثير منهم في حواضرنا الدينية الممتدة من أندونيسيا شرقاً إلى القرويين غرباً أن يدرجوا مادة(فلسطين)ضمن برامجهم التعليمية لتتعلم الأجيال قدسية هذه القضية وأهميتها في حياتنا، وأن جهاد الكلمة قد يكون أقوى وأكثر فعالية من جهاد البندقية إذا أجاد العلماء تفعيله، وأن النصر على العدو لن يتحقق إلا بثنائي الكلمة والبندقية، ولعل انفراد البندقية بالحضور في معركة طوفان الأقصى وتخلف الدور العلمائي المنشود فيها هو السبب في طول وبشاعة العدوان على غزة، وأن استدراك هذا الخلل ممكن، وعلينا أن نراجع ونحاسب أنفسنا عسى الله أن يأخذ بأيدي إخواننا في غزة إلى فرج عاجل قريب…

﴿ قُل لَّن يُصِيبَنَا إِلَّا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَنَا هُوَ مَوْلَانَا ۚ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ﴾ [التوبة: 51].

مقالات ذات صلة

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى