معارك غزة المستمرة
لم يكن إطلاق اسم “طوفان الأقصى” على الحركة التحريرية التي انطلقت منذ أكثر من عامين إطلاقاً عبثياً، بل هو ربط فكري وإيماني بين معالم متعددة لقضية واحدة، تجتمع كلها في القدس والأقصى الذي يشكّل قمة هرم الصراع.
فضلاً عن ذلك فإن الربط بين الطوفان الذي انطلق من غزة، والأقصى الكائن في القدس، ربطٌ يقرأ حقائق التاريخ قراءة سليمة، حيث كان قدَر غزة أن تكون مفتاح فلسطين، ويكفي أن نذكر أنّها كانت أول مدينة كبيرة يدخلها المسلمون في خلافة أبي بكر رضي الله عنه، وبعد ذلك بحوالي 13 قرناً كانت أول مدينة يحتلها الجيش البريطاني، بعد ثلاث معارك كانت أخراها في مثل هذه الأيام من مطلع شهر تشرين الثاني 1917، والتي أدّت إلى إعلان وعد بلفور في اليوم نفسه الذي وصلت فيه إلى لندن أنباء الهزيمة الأولية للجيوش المدافعة عن غزة، وكانت تمهيداً لاحتلال القدس بعد شهر من ذلك.
واليوم تدور رحى المعارك حول غزة، والهدف هو القدس، وتستمر غزة في صيانة بوابة الأقصى والذود عنه وعدم السماح بتنفيذ مخططات التهجير الذي يمهّد لسحق الوجود الفلسطيني وتكريس الدولة اليهودية العنصرية والإعلان الأخير لانتصار الرؤية والمشروع الإمبريالي الغربي، الذي لا يزال يتابع تدمير الشعوب واستنزاف خيراتها منذ أواخر القرن الخامس عشر وحتى اليوم.
وبالعودة إلى معارك غزة الثلاثة، التي استمرت ما بين آذار وتشرين الثاني 1917، فإنّ المقارنة بينها وبين ما يجري اليوم في فلسطين كلها، يظهر شبهاً واضحاً في الظروف الدولية والمحلية، فلولا التواطؤ والتخاذل الذي تعاملت به الدول الإسلامية مع قضية فلسطين بالأمس واليوم، ومع المقاومة المدافعة عنها، لم يكن للعدو مهما بلغت قوته أن يحقق بعض ما حققه، ولكن هذه الأمة تركت خيرة أبنائها يقاتلون وحدهم، وأسلمت قيادها لمتجبر يقود العالم بفكرة استعلائية مجنونة، وبقيت متفرجة مكتوفة اليدين بينما يغتال العدو الغاصب ثلة من أعظم القادة والمفكرين والمجاهدين، مما سبّب لنا خسارة استراتيجية لا يعوضها إلا اللطف الإلهي.
لا تزال معارك غزة مستمرة حتى الساعة، على الصعيد الحربي إذ يتابع العدو انتهاكه لوقف إطلاق النار، ويمارس الحصار والتجويع الذي لا يقلل من خطره عدد قليل من شاحنات المساعدات لاتتجاوز نسبته 24% من عدد الشاحنات الذي تمّ الاتفاق على دخولها إلى غزة في اتفاقية وقف النار.
وللمعركة جبهات أخرى لا تقلّ خطورة، تدور رحاها في القدس والضفة الغربية، حيث يتابع العدو إجراءات ضمّ الضفة، ويطرح مناقصات لعروض بناء مجمعات استيطانية جديدة وكبيرة وخاصة في مدينة القدس، ويقوم بإعادة هندسة المخيمات والتجمعات الفلسطينية في الضفة الغربية، من خلال عمليات التجريف والهدم الواسعة التي تجري منذ أشهر دون اهتمام إسلامي ولا عربي، وبدعم غربي وأمريكي واضح.
لقد كان قيام الغرب بزرع الكيان الغاصب في بلادنا عبارة عن معالجة للخطيئة والشر بخطيئة وشرّ أكبر منه، على حساب دمائنا وكرامتنا وأرضنا ومصالحنا وحاضرنا ومستقبلنا، وهو يتابع النهج نفسه اليوم، معالجة الشرّ بالشرّ، فيقدم المزيد من الدعم للكيان المارق لقتل روح المقاومة في نفوس المظلومين، وارتكاب مجزرة العصر، وتصفية القضية الفلسطينية، وتطبيق السيادة الفعلية للكيان الصهيوني على الدول المحيطة به، وإطلاق يده الشريرة في القتل والقصف حيث يشاء.
أفلا يتدبر قادة العرب والمسلمين هذا ؟ أم يظنون أنّ التاريخ انتهى حيث يريد ترامب ونتنياهو ؟
﴿ولقد كتَبنا في الزبور مِنْ بعد الذِّكر أنَّ الأرض يَرِثها عباديَ الصَّالحون﴾.
أمين سر الملتقى العلمائي العالمي من أجل فلسطين



