غزة.. الشعوب تكسر الحصار

بقلم الشيخ محمد الناوي
ستة أشهر ويزيد، كانت أكثر من كافية لإلقاء الحجة على الجهات الرسمية في دولنا الإسلامية، وعلى حواضرنا الدينية التي، وللأسف الشديد، لم تقم بواجباتها كاملة تجاه ما يجري في غزة، حيث يُدمَّر الحجر، ويُذبح الرضيع والشيخ الكبير أمام مرأى العالم المتخم بمبادئ الحرية وحقوق الإنسان سُحتًا وزورًا وبهتانًا.
الشعوب الحرة تركب البحار عبر سفينة “مادلين” الأوروبية، وتشق الطرقات الصحراوية الطويلة عبر “قافلة كسر الحصار” المغاربية، لتتجاوز كل تلك المؤسسات، ولتُثبت حيوية الضمير الإنساني أولًا، ولتبعث برسالة قوية مفادها كسر حدود سايكس–بيكو من ذهنية شعوبنا المسلمة، ولتقيم الحجة على كل متخاذل، ولتدق المسمار الأخير في نعش الكيان المحتل وكل النظام العالمي المجرم الذي يدعمه علانية.
إن قافلة الصمود وكسر الحصار، وهي تشق طريقها شرقًا باتجاه غزة، وصلت إلى رفح أم لم تصل، فقد نجحت منذ لحظة انطلاقها في خلق نواة أولى لتعبئة شعبية في كل الدول الإسلامية، آملين أن تنسج شعوب دول الطوق على منوالها، حيث أخذت الشعوب على عاتقها، وبشكل فعلي، مهمة كسر الحصار، وإدخال المساعدات، وإيقاف الحرب الظالمة عن شعب عانى الظلم لعقود.. وبهذا، وإن كانت الأولى كقافلة برية، فستكون بداية الانطلاق لقوافل أخرى من كل أنحاء العالم الحر باتجاه فلسطين.
وفيما يخص هذه القافلة البرية التي انطلقت أساسًا من تونس، لتنضم إليها قوافل أخرى في الطريق، فإنه من المحزن حقًا أن نسمع من بعض “المتفيقهين” من يشكك في شرعيتها، فقط لأن من نظّمها ينتمون إلى العلمانيين أو القوميين أو ممن لا يصلّون، أو لأنها تضم اختلاطًا بين الرجال والنساء، وغيرها من التعلّات.
لستُ أدري من سمح بأن يفتي القاعد للمجاهد، وليت شعري متى احتاج دعم المظلومين إلى وضوء؟ وهل امتلاك العقيدة السليمة شرطٌ لدفع الظلم؟ وهل الدفاع عن المظلوم يحتاج إلى حكم فقهي؟ لكل هؤلاء نقول: طالما أنكم تركزون على الفتوى الشرعية تجاه تلك القافلة التي يقودها “منحرفون عقديًّا” بحسب وجهة نظركم، فسنجيبكم بأحكام فقهية تدحض دعاواكم.
فإذا كانت “إماطة الأذى عن الطريق صدقة”، وإذا كان دفع الأذى يوجب عليك قطع الصلاة، وإذا كان “هدم الكعبة أهون عند الله من قتل مسلم”، وإذا كان “حفظ الحياة” هو رأس الكليات أو الضروريات الخمس التي تحرص الشريعة على حفظها، وهو مقدم على “حفظ الدين”، فمتى احتاج تسيير قافلة الصمود وكسر الحصار إلى دين؟ بل إن الدين وقيامه ونجاحه هو ما يحتاج إلى حياة المسلم.
وإذا كنتم تخشون الاختلاط، فقد صرّح عتاة الصهاينة، ومن باحات المسجد الأقصى الذي يُدنَّس يوميًا، أن “محمدًا مات ولم يترك إلا بنات”، فلو تحرك رجال المسلمين للدفاع عن غزة، ما رأينا ربات الخدور ولا غيرهن من النساء يقطعن آلاف الكيلومترات في قافلة الصمود، في ظل حرٍّ شديد ومجازفاتٍ أشد.
من المحزن حقًا أن يتقدّم هؤلاء ويتحمّلوا مشقة الطريق، وأرواحهم على أكفهم، منتصرين للقضية الأقدس وباسم الإنسانية، فيما نرى مرجعياتنا تنتقدهم وتتخفّى متخاذلة (وليست عاجزة) لتصدر بيانات فقهية في شرعية هذا التحرك الشعبي الغيور والنبيل.
أليس الأَولى أن تكون بيانات العلماء دفعًا للأمة نحو وحدتها وعزّتها، لا حاجزًا بينها وبين الأخذ بأسباب الانعتاق؟ إنّ غزة، وهي تنزف، لا تحتاج لمجالس للفتوى، فكل لحظة فيها قيامة ورعب. غزة تنتظر إنسانًا يواسيها، يرفع الظلم عنها، ويقول لها: “نحن معكم ولن نخذلكم”. غزة لا تحتاج لأناس ذوي خلفية عقدية مسلمة فقط، بل تحتاج لكل إنسان حرّ يرفض الظلم ويعمل على رفعه عنها.
نحن نلجأ للعلاج في دول غير مسلمة، ولا نشترط إسلام الجراح، وقد نضطر أحيانًا إلى طبيب غير مسلم لتوليد امرأة مسلمة، ونشكره على سلامتها، ولا نطلب فتاوى لذلك. لكن، عندما يقود القافلة شباب مسلمون بالولادة، يحملون بعض الأفكار “المخالفة للدين”، نحاربهم بالفتوى، بحجة أن نصرة غزة لا تصح إلا من متوضئين مصلين ودون اختلاط!
فما الفرق بين هؤلاء “المتفيقهين” ومن يتهمون المقاومة في فلسطين بأنها “منحرفة عقديًا” وبالتالي لا تستحق النصرة؟! الخلل تارةً في عقيدة الناصر، وتارةً في عقيدة من يستحق النصرة، وفيما بينهم يبقى “المتفيقهون” على كراسيهم الفارهة.
ليتهم، كما حفظوا أحكام الوضوء، قرؤوا أيضًا وجوب نصرة المظلوم، وليتهم استوعبوا قاعدة “إذا فُقِد الماء، يُتَيَمَّم”، فطبّقوها على أنفسهم. فعندما تخلّف العلماء، بدينهم وإسلامهم، عن نصرة غزة، حضر هؤلاء بعلمانيتهم وإنسانيتهم.
وحسبنا الله ونعم الوكيل.