الشرُّ لا يدمّر إلا صاحبَه
استغرق الاحتلال الفرنسي للجزائر 132 سنة بالضبط، قام خلالها الفرنسيون بجهود هائلة لضمان تحويل الجزائر إلى مقاطعة فرنسية، واستخدموا كل الوسائل الممكنة، من القوة العسكرية التي قضت على عشرات الثورات التي لم تنقطع أبداً، وأهمها ثورة الأمير عبد القادر الجزائري، إلى القوة الاقتصادية والثقافية، التي هدفت إلى جعل الجزائري تابعاً وأسيراً للقيم والمفاهيم والحياة الفرنسية.
فشل مشروع الفَرْنَسَة، وعادت الجزائر مستقلة عام 1962، ولكن بعد أن قدمت ما يتجاوز مليوناً من الشهداء، وبعد أن تمّ تدمير العديد من البلدات والمدن، ونهب ثروات الجزائر دون رحمة، واستغلال أراضيها الشاسعة لتنفيذ التجارب النووية، ودراسة آثار أسلحة الدمار الشامل على أجساد الجزائريين الحيّة، والذين تمّ ربطهم إلى أعمدة ضمن الحقول التي فُجّرت فيها القنابل الذرية؛ ولا تزال أمكنة إجراء هذه التجارب تنفث الإشعاعات، وتقوم بقتل الجزائريين حتى اليوم، وتلويث مصادر المياه، دون أن تستجيب فرنسا للنداءات الجزائرية المتوالية بالكشف عن خرائط هذه التجارب القاتلة.
في النهاية خرجت فرنسا من الجزائر مرغمة، بقوة الإرادة الجزائرية، ورغم معارضة العقول الاستعمارية السياسية الفرنسية لهذا الخروج، ورغم كل الشر الذي صنعته فرنسا في الجزائر، وأرادت من خلاله تدمير الروحية والهوية الجزائرية.
بالنسبة للصهيونية، فإن “بنغفير” وشريكه “نتنياهو”، ومَن قبلهما وصولاً إلى مائير وبنغوريون…. كل هؤلاء ليسوا إلا حفاري قبور، مثَلهم في ذلك مَثل الضباط والقادة العسكريين الفرنسيين في الجزائر.
نعم. لقد حفر أولئك المجرمون قبوراً كثيرة لضحايا لا يمكن إحصاؤهم، من النساء والأطفال والشيوخ والشباب، وعرضوا جماجم الثوار الجزائريين في متاحف التاريخ الطبيعي الفرنسية، ولا تزال معروضة حتى اليوم !
لكن القبر الأوسع الذي حفروه هو قبر المدنية الفرنسية، وقبر كل قيمة أو فكرة سامية يمكن أن ينسبها الفرنسيون إلى أنفسهم؛ لأنهم ارتكبوا في مقابلها من الموبقات ما لا يمكن غفرانه ولا نسيانه، وسوف يأتي اليوم الذي تُحاسب فيه فرنسا على ما ارتكبته في كل مستعمراتها السابقة والحالية.
ومما لا شك فيه أن هؤلاء المتطرفين الصهاينة، وكل الصهاينة متطرفون؛ لن يستطيعوا سوى أن يعمقوا حفرة القبر الذي ستُدفن فيه الصهيونية ومشروعها الاستعماري في فلسطين، وسوف يدفنون معها كل الأساطير التي لفّقوها، والأكاذيب التي اخترعوها ليبرروا وجودهم في هذه الأرض المباركة.
في هذا القبر اللعين سوف تُدفن أسماء كثيرة أيضاً، ساهم أصحابها في زرع هذا الكيان الغاصب والمجرم فوق أشلاء المساكين والأبرياء، من سايكس إلى بلفور إلى أللنبي وسواهم.
سوف تختفي الصهيونية يوماً ما، لأنها إحدى شرور العالم الكبرى، وكل أفعالها الآثمة تؤكد هذه الطبيعة الشريرة الأصيلة فيها، التي ترتوي من دماء الشرفاء وأصحاب الحقّ، وتقتل في كل يوم من يدافع عن حقّه ويتمسك بأرضه.
لقد وصلنا إلى اليوم الخامس من أيام هذه السنة 2023، بينما بلغ عدد الشهداء الفلسطينيين خلال هذه الأيام أربعة شهداء، دون أن يحسّ العالم بسبب يدفعه لاستنكار هذه الجرائم اليومية بحق الشعب الفلسطيني، وهذا ليس بمستغرب على عالم قام على أسس متطابقة مع أسس المشروع الصهيوني، وهي أسس مادية انتهازية استعمارية، لا تعترف بالشراكة الإنسانية، ولا محل للقيم في منظومتها الفكرية، إلا بمقدار ما تخدم مصالحها الخاصة.
الصهيونية شرٌّ مطلق، والشرّ يقتل الأبرياء، غير أنّه يجعلهم شهداء؛ لكنّ الشرّ يقتل أصحابه ومن يعمل به، غير أنه يجعلهم أمثولة يعتبر بها الناس ويضربون بها الأمثال، كم ضرب الله بفرعون وجنوده الأمثال.
الصهيونية شرٌ زاهق، لكن زهوقه وزواله مرهون بتقدم الحقّ ومجيء أهله، وهذا ما يفعله الفلسطينيون الثابتون على العهد، المتمسكون بخيار التحرير: (وَقُلْ جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقًا).
محمد أديب ياسرجي
أمين سر الملتقى العلمائي العالمي من أجل فلسطين