إليك ومنك… الإسراء والمعراج
كل الأمم تدافع عن رموزها، المادية والمعنوية، ولا مجال هنا للحديث عن رمز كبير أو صغير، لأنّ الرمز ينال قيمته بما يعبّر عنه من معانٍ، وبما يمثّله في نفوس أبناء الأمة ويرتبط به من أحداث وتاريخ وربما آلام وآمال.
وعندما نتحدث عن المسجد الأقصى المبارك خصوصًا، وعن مدينة القدس عمومًا، فإننا نتحدث عن حيّز واسع مليء بالرموز من مختلف المستويات، وغني بالشواهد المادية التي تنتمي إلى حُقب تاريخية تمتد على مدى 15 ألف عام تقريبًا، بل ومنذ بدء التوطّن البشري في هذه المنطقة.
وعندما بُعث السيد المسيح (ع)، وعندما أنار الإسلامُ في هذا العالم كان للمدينة مواعيد نحو تعميق مكانتها الروحية التي تمتد إلى إبراهيم (ع) وما قبله من الأنبياء الكرام.
ومما لا شكّ فيه أنّ حدَث الإسراء والمعراج يشكّل محطة عظيمة الدلالة في حياة هذه المدينة المباركة، لارتباطه بمعظم الأنبياء عليهم السلام، فضلاً عن ارتباطه بمحمد نبي الرحمة (ص).
وعندما يدافع المؤمنون بالحقّ الفلسطيني عن هذه البقعة من الأرض فإنما يدافعون عن الخير والحق والجمال، عن الإنسانية المعطاء، عن الأخوة ما بين الناس، عن الحضارة والإبداع، وعن مستقبلٍ آمنٍ نريد للبشرية أن تحيا فيه بدون حروب ولا عنصرية ولا قتل ولا دمار.
وهاهي الدول التي نافقت للكيان الصهيوني طويلًا، وساهمت في صنع المأساة والفاجعة التي حلّت بفلسطين؛ ها هي تستشعر لهيب الحرب على أبوابها !
وإذا كنّا نعتقد أن الساسة والزعماء لا يبالون بما تخلّفه الحروب؛ فإن معظم الناس يهتمون، وخاصة نحن الذين نعيش في أكناف فلسطين؛ الذين اكتوينا بجحيم الحروب الاستعمارية منذ مئة عام ولا نزال.
ونحن ندرك تماما كيف أن هذه الأنظمة التي تحمي الكيان الغاصب وتدافع عنه وتلاحق كل من يعارضه؛ هي نفسها التي ساهمت في إشعال الحرب الدائرة حالياً في أوربا، رغم أنها تدعي خلاف ذلك.
إننا نرجو أن يستيقظ الأوربيون ومعظم الناس للتفكير في خطر الحروب على البشر، وللتفكير قبل كل شيء في العوامل التي تتسبب في إشعال الحروب، وفي مقدمتها اغتصاب الحقوق واحتلال الأراضي وتشريد الناس؛ وهذا بالضبط ما حدث مع الفلسطينيين بأشنع صورة في العصر الحديث.
لقد حذرنا القرآن الكريم من تلك الفئة المفسدة التي تجد أن الحروب هي أكبر استثمار لها، وترى في موت الناس وتشريدهم بضاعة رابحة لها:
(وَقَالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ. غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُوا بِمَا قَالُوا. بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ يُنفِقُ كَيْفَ يَشَاءُ؛ وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيرًا مِّنْهُم مَّا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ طُغْيَانًا وَكُفْرًا، وَأَلْقَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ إِلَىٰ يَوْمِ الْقِيَامَةِ؛ كُلَّمَا أَوْقَدُوا نَارًا لِّلْحَرْبِ أَطْفَأَهَا اللَّهُ، وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا؛ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ) الأنعام:64.
ومما لا شك فيه أن ثبات الفلسطينيين وتصديهم لإجرام الكيان هو عامل من أهم العوامل التي تردع هذه الفئة المفسدة عن التسبب في الكثير من المصائب والمشاكل للبشرية، رغم كثرة ما يتسبب به حاليًا.
تصوروا أنه لا أحد يواجه جرائم هذا الكيان؛ عندها سوف يتمدد بكل راحة ليبتلع دولاً أخرى، وهذا ما يحاوله في كل حين، سواء بالسيطرة المباشرة أم غير المباشرة.
يقينًا أن للفلسطينيين فضلٌ على كل الناس، وكذلك كل من يساهم في تحجيم شرور هذا الكيان بأي وسيلة.
حفظ الله شعب فلسطين الثائر الصامد المضحي؛ الذي يقدم شبابه التضحيات، ونساؤه وأطفاله وشيوخه ورجاله؛ هؤلاء الرجال الذين تقوم فئة منهم بمقاومة الاحتلال بكل عنفوان، رغم أنهم (أسرى) !
أسرى ولكن أحرار، وسجناء ولكن عطاءهم يمتدّ نحو كل أرجاء الدنيا.
أسرى تعرج أرواحهم في كل يوم إلى السموات لتستمد العون من الله سبحانه والعزيمة لمواجهة إجرام السجّان.
أسرى وقلوبهم تسري في كل ليلة إلى المسجد الأقصى، وتطوف وهي في طريقها بكل ربوع فلسطين، تتوضأ من مائها، وتتيمم من ترابها، وتستنشق عبير زهورها.
ولا عجب في ذلك أبدًا؛ لأنهم يعرفون ما معنى القدس وما معنى فلسطين، فلسطين التي سيبقى منها معراج الأحرار إلى حضرة الغيب، وإسراؤهم إلى قدس الشهادة.
محمد أديب ياسرجي
أمين سر الملتقى العلمائي العالمي من أجل فلسطين