غزة.. ونكبة الوعي

بقلم الشيخ محمد الناوي
﴿إِن يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِّثْلُهُ وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ﴾ (آل عمران: 140)
لا يزال العدوان مستمرًا على غزة، مخلفًا عشرات الشهداء كل يوم، في مشهدية اعتاد عليها أصحاب القلوب الميتة وتكلّست فيها أحاسيسهم، فيما يسعى العدو إلى ابتكار أساليب جديدة يفني بها أهل غزة على مرأى العالم.
إنها فعلاً حرب قذرة، لأن الحروب في أصلها تكون بين قوتين، لا بين جيش جرار ومدنيين عُزّل. ولما لم يبقَ من أهداف بعد فشله في القضاء على المقاومة، فإن العدو يسعى لقتل المدنيين بشتى الوسائل، ومنها استخدام سلاح التجويع، ليموتوا أمام عالمٍ متخم البطون، خاوي الضمير… إن غلبة صوت الرصاص ورائحة الموت على كل شبر من تراب غزة، ووجود قرابة مليون طفل يعانون خطر الموت بسبب الجوع، وفشل العالم في إيقاف المذبحة، وعجزه عن إدخال الغذاء والدواء، يؤكد موت ضمير صانعي القرار…
العالم الإسلامي، وهو المعنيّ الأول بما يجري من محن وأهوال على أهلنا في غزة، يعاني – بالرغم من مرور عقود على النكبة وخمسمئة وخمسين يومًا من المجازر المتواصلة – من نكبة في الوعي، بين متجاهل كليًّا لما يجري، ومتناسٍ للارتدادات الخطيرة في حال تمت تصفية القضية بالكامل، وبين من يشكك كذلك في جدوى المقاومة، وكأنّ قدرنا أن نعيش أذلّاء صاغرين، بل ويحمل المقاومة مسؤولية كل الدماء التي سفكها العدو، وكل الخراب الذي حصل… إننا فعلاً نعيش مرحلة نكبة الوعي في قراءتنا للأحداث، تلك القراءة البعيدة تمامًا عن سنن الحياة، القراءة الفاشلة التي تقيّد حركة الإنسان، وتجعل منه عبدًا منبطحًا يخضع لجبروت الظالم، لا لشيء، إلا لأنه لا يملك من وسائل القوة شيئًا…
إن تجليات نكبة الوعي تبرز حين نغفل عن قراءة ما تدركه الحواس… فقطرات الماء الناعمة تترك أثرها على أصلب الصخور، وزخات المطر تحفر في الأرض، وتتجمع لتتحول إلى أودية، ثم إلى سيول جارفة… والطبيعة في تغير مستمر في تضاريسها، حتى أن حركة حبيبات الرمال قد تتحول إلى كثبان رملية تشبه الجبال، وتزحف رويدًا رويدًا لتغير وجه الأرض. ومن هنا يمكن للإنسان أن يتعلم أن الحركة والتغيير نحو الأفضل لا يتطلبان منك قوة، بقدر ما يتطلبان وعيًا، وثباتًا، ويقينًا، واستمرارية، لا تثبيطًا وترددًا وتشكيكًا. ويتطلبان منك ليونة حينًا، وصلابة أحيانًا، ولكنهما يمنعان عنك التوقف، لأن الحياة الحقيقية تعلّمك أن تعيش مقاومًا حرًّا في كل أحوالك، ويتطلبان منك إرادة صلبة، أساسها اليقين بالله…
في المواجهة الميدانية، نسمع ما يُصطلح عليه بـ “المنطقة الساقطة عسكريًا”، في إشارة إلى مساحة جغرافية يُضطر فيها أحد الأطراف إلى التضحية بها لصالح العدو، لعدم إمكانية مواجهته فيها نظرًا لتضاريسها الخاصة، إلا أنها تكون في الغالب كمينًا للعدو يتكبّد فيه خسائر كبيرة.
وفي العدوان على غزة، اكتشفنا سقوطًا كبيرًا في الوعي، برز في ردود الفعل الضعيفة، ناهيك عن التفويت في فرص الاستثمار في عوامل النصر والعزة، كالاستثمار في الوحدة الإسلامية، والاستثمار في تصحيح العلاقة الفاترة بين الحاكم والمحكوم، والاستثمار في مقدراتنا البترولية لتفعيل سلاح المقاطعة كعامل ضغط لوقف العدوان، والاستثمار في وحدة الصف الفلسطيني بفعل وحدة القضية والمصير، والاستثمار في المقاطعة الاقتصادية لكل المنتجات الداعمة للاحتلال، كوننا مجتمعات استهلاكية ومؤثرة. وقد فشلنا في كل ذلك بسبب مفاعيل سياسة “الاستحمار” التي مورست على شعوبنا، وخصوصًا بفعل الإعلام الموجّه دوليًا وإقليميًا…
إن سقوط الأمة في معركة الوعي في هذه المرحلة يحتاج إلى دراسة نقدية من الداخل، تُكشف فيها جميع الأسباب التي أدت إلى هذا الفشل في أوضح طوفان ميداني خاضته قلّة صادقة، كانت تأمل أن يساندها طوفان في الوعي لدى الأمة.
وهذه الدراسة لا بد أن تكون بمثابة عملية تشريح نحتاج فيها إلى جرأة، كونها قد تمسّ خصوصيات البعض وتحاسبهم عن أسباب التخلف والرسوب في امتحان الدعم المعنوي والمادي لغزة، فلا اعتبار لأي خطوط حمراء مع استمرار الخذلان.
فالأمة لا تحتاج إلى فكر وثقافة فقط، بل إلى وعي ينقلها من حالة التفكير المجرّد إلى حركة الفعل والتغيير. ﴿وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَن يَنصُرُهُ ۗ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ﴾ (الحج: 40)