أرض الإسراء
تجدد ذكرى الإسراء والمعراج الكثير من المعاني والرموز، التي تمنح الماديّ والمحسوس عمقاً روحياً وإيمانياً، وتضيف إلى الجغرافية المحلية والتاريخ الخاصّ أبعاداً كونية، وتربط الواقع بالغيب، وتصل الماضي بالحاضر.
فالقدس وفلسطين وطن عزيزٌ، ولكنها أيضاً أكثر من وطن، ولذلك يرتبط بها – حبّاً وفداءً – أناسٌ من كل أوطان الأرض، وذلك لعمقها الإيماني الذي لازمها منذ فجر التاريخ، والذي خُتمت أحداثه الكبرى بالإسراء إليها من مكة المكرمة، وعروج المصطفى الأكرم “ص” منها إلى السّموات العلى، والاجتماع الذي كان بينهما بحضور أنبياء الله تعالى جميعاً.
وبذلك انتقلت الجغرافية من كونها بقعة محلية لتصبح “الأرض التي باركنا حولها”، وتحوّل تاريخها الخاص إلى تاريخ كونيّ لأنه أضحى جزءاً من تاريخ كلّ نبيّ ورسول، والأنبياءُ والرسل هنا هم ممثلو الأمم كلّها، والصفوة المعرفية والأخلاقية لكل أجناس أهل الأرض.
وما دمنا في ذِكر الأخلاق والمعرفة فإننا نذكر ما بشّر به المصطفى “ص” في حوادث آخر الزمان، من أنّ عيسى “ع” يقتل “الدجّال” في القدس، والدجال ليس شخصاً مادياً فحسب ولكنه مثالٌ لكل ما يناقض المعرفة والسموّ الأخلاقي، وبهذا الربط بين الأحداث التي شهدتها القدس وفلسطين وعلى رأسها الإسراء والمعراج، وبين تلك الأحداث التي سوف تشهدها لاحقاً؛ بهذا الربط يتحول الماضي والمستقبل إلى جزء من الحاضر، وتتمازج الأزمنة لتكون جزءاً من الواقع ومكوّناً أساسياً من مكونات الشخصية الإنسانية لأصحاب هذه الأرض ولكل الناس الذين يرتبطون بها.
وبذلك لا غرابة في أن تكون قضية فلسطين بالنسبة إلى أهلها والمؤمنين بها ليست قضية أرض وحرية وكرامة فحسب، على الأهمية العظيمة لهذه الأبعاد، ولكنها أيضاً قضية وجود أمة، وما بين فلسطين من جهة والصهيونية العالمية من جهة أخرى ليس نزاعاً على مصالح مادية وحدود سياسية فقط، ولكنه صراع رسالة حضارية تحمل الخير للإنسان والرحمة للعالمين، مع ثلّة من الطغاة والمستكبرين الذي يتخذون كل وسيلة شريرة لفرض الهيمنة والتسلط على الشعوب، وسرقة مواردها وثرواتها، والعمل على تحويل الناس إلى عبيد في خدمة مآربهم الدنيئة.
ومن هنا فإنّ سعي الاحتلال للسيطرة على مصلّى باب الرحمة ليس إلا محاولةً لتمديد المشروع الصهيوني شبراً وراء شبر على المسجد الأقصى الذي يضمن بقاء قضية الحق والعدل حيّة ما دام موجوداً، والعدو يعلم أن احتلال فلسطين كلها وفتح أبواب المغرب ومصر والأردن والإمارات والسودان وأي دولة أخرى ترضى بالتطبيع الذليل معه، أنّ كل ذلك لا يغني عن الاستيلاء على المسجد الأقصى ثمّ هدمه والتخلص من كل ما يرمز إليه.
وهذا أمرٌ وعاه الفلسطينيون مبكراً، وما ثورة البراق عام 1929 إلا مثال على هذا الوعي لحقيقة الصراع، كما إنَّ انتفاضة الأقصى وهبّة البوابات والحملات الفلسطينية المستمرة لحماية باب الرحمة هي أيضاً أمثلة على وعي الفلسطينيين الكافي وعلى استعدادهم للتضحية والبذل في سبيل قضيتهم العادلة وحقوقهم الإنسانية، ومن أجل أرضهم ووطنهم ورسالتهم الإيمانية والحضارية، ولن يزيدَهم تخاذل المتخاذلين عن نصرتهم، أو تماهي المطبعين مع المشروع المعادي إلا تمسكاً بقضيتهم وإيماناً بأنّ الحق منتصر وأن الدجال وأمثاله في هذا العصر مخذولون.
محمد أديب ياسرجي
أمين سر الملتقى العلمائي العالمي من أجل فلسطين