غزة.. ويقين أهل الكهف
بقلم الشيخ محمد الناوي
﴿وَرَبَطْنَا عَلَىٰ قُلُوبِهِمْ إِذْ قَامُوا فَقَالُوا رَبُّنَا رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَن نَدْعُوا مِن دُونِهِ إِلَٰهًا لَّقَدْ قُلْنَا إِذَا شَطَطًا﴾ (الكهف 14)
بين أهل الكهف وأهل الأنفاق في غزة مسافة من الزمان والجغرافيا لا يعلمها إلا الله، ولكن بينهما ترابط وثيق، ترابط في الفكر والعقيدة والعزم والثبات والإصرار والتحدي وفي الخواتيم المتوجة بانتصار الحق والمحقين… فكلاهما قد مثّل حلقة من حلقات الصراع الأبدي بين الحق والباطل. وكما أظهر الله على أهل الكهف وتحدث عن يقينهم وإيمانهم ونصرهم وخلدهم في قرآنه إلى قيام الساعة، فجهاد أهل الرباط في أنفاق غزة سيتوج بإذن الله ووعده الصادق فتحًا لبيت المقدس وتحريرًا كاملاً لفلسطين وتأسيسًا لدولة العدل الإلهي الموعودة…
إن فتية الأنفاق ومن على نهجهم ممن شدّ ويشد أزرهم من الشرفاء والأحرار في العالم يمثلون حالة استثنائية في هذا العالم المتغطرس الذي انبطح فيه الكثير بسبب تجبر الظالمين وفتكهم بكل من يعارضهم. إنهم ممن انتجبهم الله في هذا الزمن الصعب فقوى بصيرتهم وإيمانهم ليثبتوا على الحق، فقاموا متوكلين على الله الذي له السلطان المطلق على الكون وما حوى…
﴿إِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ يَرْجُمُوكُمْ أَوْ يُعِيدُوكُمْ فِي مِلَّتِهِ وَلَن تُفْلِحُوا إِذًا أَبَدًا﴾ (الكهف 20). هذا كلام واقعي بالحسابات المادية للأمور، فأسلوب الطغاة تجاه كل من يعارضهم هو نفسه وإن تغيرت وسائلهم، إنه القمع والقتل. ويجب الاحتياط جيدًا في التعامل معهم، ولكن ما ورد في هذه الآية نسمعه من بني جلدتنا وهم يزرعون اليأس والإحباط لتنام الأمة على جراحاتها وتسلم في حقوقها دون أدنى مقاومة. نسمعه ممن يلقي اللوم على كل نفس مقاوم ويحمله مسؤولية الخراب الذي حلّ.
في المقابل، تختلف لغة المقاومين الأحرار والشرفاء، فكلماتهم وأفعالهم في مواجهة العدو لاتعتبر مجازفة وتهورًا، ولكنها مواقف لها حساباتها الدقيقة التي تتفق مع الواقع ومع الاعتقاد الصحيح الذي يتلبس به كل مؤمن صادق يسعى لتحقيق هدف وجوده في هذه الحياة، وهو إقامة العدل وإكرام الإنسان…﴿وَرَبَطْنَا عَلَىٰ قُلُوبِهِمْ إِذْ قَامُوا فَقَالُوا رَبُّنَا رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَن نَدْعُوا مِن دُونِهِ إِلَٰهًا لَّقَدْ قُلْنَا إِذَا شَطَطًا﴾(الكهف 14).
فليس للذل وجود في حياتهم وطالما أنهم مع الله، فسيعزهم ولن يكون للظالمين عليهم سبيلاً… وهذا هو موقف رجال الله في غزة وفي كل ميادين العزة، وقد تجلى صدق حال كل هؤلاء في صدق توكلهم على الله رغم الجبروت الظاهر للعدو، وهذا ما نقرؤه في قوله تعالى ﴿رَبَّنَا آتِنَا مِن لَدُنكَ رَحْمَةً وَهَيِّئْ لَنَا مِنْ أَمْرِنَا رَشَدًا﴾ (الكهف 10) فقد أوكلوا كل أمورهم إلى ربهم وطلبوا منه تعالى أن ييسر لهم أمورهم بما يراه هو لا بما يرونه هم، وهذا يعني الكثير والكثير لأن المستحيل الذي نحسبه وفق حساباتنا المادية وإمكاناتنا المحدودة لا يكون مستحيلاً عند الله، بمعنى أن إعدادنا للعدة على قدر الاستطاعة يجعل من توكلنا على الله قلبًا للموازين ولكل المعادلات باتجاه الحسم لصالح أهل القضية، وكما سخر الله الشمس لأهل الكهف لأكثر من ثلاثمائة عام وهو يقلبهم بقدرته، وكما أسبغ عليهم وهم نيام هالة الرعب لكل من يراهم، فليس بالمستحيل أن ينزل ألطافه برجال غزة وبكل من ساندهم ويؤيدهم بأسباب الصمود والنصر على الأعداء… وتخليد قصة أهل الكهف إنما للاعتبار وليس لقراءتها والمرور عليها مرور الكرام ﴿وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَىٰ أَمْرِهِ وَلَٰكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ﴾ (يوسف 21).



