مقالات

حين تُختبر الأمة في ثوابتها

تمرّ الأمة في هذه المرحلة بمحنة دقيقة، ليست محنة السلاح والدم فحسب، بل محنة الوعي والصدق والثبات. فالمجازر المستمرة في غزة، والضربات القاسية التي تتلقاها قوى المقاومة في أكثر من ساحة، ترافقت مع أصوات داخلية بدأت تُراجع المسار، لا من باب التقويم المشروع، بل من بوابة التخلّي والانكفاء، متذرعةً بـ “الواقعية”، أو بدافع التعب والخذلان.

لكنّ القرآن الكريم والسيرة المباركة يشهدان أن لحظات الألم لم تكن يومًا مبررًا للتراجع عن المبادئ، بل كانت محطاتٍ للتمحيص واستعادة البصيرة. فبعد أُحد، لم يُلغِ الوحي مبدأ الجهاد، بل أجرى مراجعة دقيقة لأسباب الخلل، وبيّن السنن التي تحكم النصر والهزيمة، دون أن يفتح بابًا للانسحاب أو اليأس.

فالمراجعة سُنّة قرآنية أصيلة، لكنها تختلف جذريًا عن التراجع عن الخيارات الكبرى. فالجهاد والمقاومة لم تكن يومًا خيارًا ظرفيًا، ولا موضع اجتهاد سياسي متقلب، بل هي مكوّن جوهري في مشروع الأمة، وموقع أصيل في منظومة التكليف القرآني.

ولم تكن المقاومة طريقًا مضمون النتائج، نعتمده ما دامت الانتصارات متتالية، ويُهجر بمجرد تلقي الضربات .فهي ليست مشروعًا نفعيًا تُقاس جدواه بالمكاسب الآنية، بل التزامٌ متجذرٌ بالعقيدة والتاريخ والكرامة، وصبرٌ طويل في وجه استكبارٍ نعرف تماماً تاريخه وحاضره الإجرامي.

واليوم، لا تقتصر المواجهة على الميدان العسكري، بل تُخاض حربٌ ناعمة شرسة، تسعى إلى تفكيك بيئة المقاومة، وضرب ثقتها بذاتها، وبثّ الوهن في صفوفها باسم “الواقعية” و”الحكمة”. وهذه المعركة لا تقل خطرًا، بل قد تكون أشدّ فتكًا من الحرب العسكرية، لأنها تستهدف الروح والمعنى والوعي.

قال تعالى: ﴿وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّىٰ نَعْلَمَ الْمُجَٰهِدِينَ مِنكُمْ وَٱلصَّٰبِرِينَ وَنَبْلُوَ أَخْبَارَكُمْ﴾ محمد: 31.

من هنا، تتأكد الحاجة إلى خطاب مقاوم متماسك، يجمع بين رسوخ المبدأ وصدق المراجعة، ومسؤولية العلماء والمفكرين أن يصوغوا هذا الخطاب، وأن يُعيدوا وصل الفكر بالميدان، حمايةً للوعي من التآكل، وصيانةً لبوصلة المقاومة من التزييف، وتأكيدًا على أن الأمة، حين تُختبر في ثوابتها، فإن النصر لا يكون للأكثر صخبًا، بل للأقوى إرادةً، والأثبت وعيًا، والأوفى عهدًا:﴿إِن تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ﴾ محمد: 7.

الشيخ يوسف عباس
المنسّق العام للحملة العالمية للعودة إلى فلسطين

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى