غزة: لا عيد ليوسف

بقلم الشيخ محمد الناوي
قال تعالى: ﴿لقد كان في يوسف وإخوته آياتٌ للسائلين﴾ (يوسف: 7).
في قرآننا الكريم نقرأ قول الله تعالى: ﴿إنما المؤمنون إخوة﴾ (الحجرات: 10)، كلماتٌ نقرؤها وتمر على ألسنتنا دون أن تتدبرها قلوبنا، فتموت أحاسيسنا، وتتجدد معها مأساة “يوسف”، فلم تعد روايته مع إخوته من “أحسن القصص”، ويقضي يوسف حياته بين غياهب جُبّ إخوته وسجون “امرأة العزيز”، ويشرف يعقوب على الهلاك حزنًا، ولم تَعُد الأمة تعتبر مما جاء في قوله تعالى: ﴿لقد كان في يوسف وإخوته آياتٌ للسائلين﴾، فالمعرضون لا ينتفعون بالآيات ولا بالعِبر، وإنما ينتفع بها من شغله حال هؤلاء..
وفي الجغرافيا، وليس ببعيد عن موطن يوسف، يختار الله غزة ويهيئ لها من الرجال والأنصار، ومن أسباب القوة، ما يُعزّ هذه الأمة، ورغم خذلان القريب وبطش العدو، سيأتي اليوم الذي يتحقق فيه وعد الله، بعد أن ذاق الصابرون الشرفاء هناك مِحَن يوسف: من بيعٍ بثمن بخس ﴿وكانوا فيه من الزاهدين﴾، ومن غربةٍ، وإغراء، وسجون، ومنافي، لتحين بعدها لحظة: ﴿يا أبتِ هذا تأويلُ رؤيايَ من قبلُ قد جعلها ربي حقًّا وقد أحسن بي…﴾ (يوسف: 100)، بإذن الله تعالى.
يقف هذه الأيام أكثر من مليون حاجّ على صعيد عرفة، في مشهدٍ مهيب لا يتكرر إلا مرة واحدة في السنة، وليس ببعيد عن تلك البقاع الطاهرة، يقف قرابة المليوني مسلم يعانون التجويع والقتل على مدار الساعة، بسبب التواطؤ الصريح، والعجز المخزي، والتآمر الدولي، وليس لهم من ناصر ومعين إلا الله…
الأمر محيّر حقًّا؛ كيف لأمة المليارين أن تلتقي على أداء هذا الركن العبادي العظيم، ولكننا نجدها تتخلّف عن نصرة إخوانهم المنكَّل بهم منذ ما يزيد عن ستمائة يوم، بل ومنذ عقود؟ كيف تسكت وقبلتها الأولى تُدَنَّس يوميًا؟ هل ديننا مُنحصر في أداء شعائر عبادية لا ندرك أسرارها؟ ألم نقرأ ونستوعب قول الله تعالى: ﴿وما لكم لا تقاتلون في سبيل الله والمستضعفين من الرجال والنساء والولدان…﴾ (النساء: 75)؟
وهل عبثًا أن تنزل هذه الآية في سورة النساء؟ وهل لغوًا أن يعيرنا الصهاينة بقولهم: “إن محمدًا قد مات ولم يخلّف إلا النساء”؟ فهل بتنا نؤمن ببعض الكتاب ونكفر ببعض؟
لعل المسلمين لم يستوعبوا فلسفة الحج التي أسّسها نبي الله إبراهيم عليه السلام؛ فالحج في ظاهره طوافٌ للإنسان حول بيتٍ من حجارة، وسعيٌ بين جبلين من حجارة، ووقوفٌ على جبلٍ من حجارة، وفي مزدلفة يجمع حصيات ثم يرجم بها مجسّمًا من حجارة… شعيرة تكثر فيها الحجارة باختلاف أحجامها ومسمياتها، ولكننا نغفل كثيرًا عن الأبعاد المعنوية العميقة لهذا الركن العظيم، الذي ربط الله عز وجل أداءه بتحقيق النفع العام للمسلمين في دنياهم وأخراهم: ﴿ليشهدوا منافع لهم﴾، وأي نفعٍ أعظم من حفظ الحياة، وصون المقدسات، وتحرير الأرض، وتحقيق الوحدة بين أبناء هذا الدين؟
إن وقوف المسلمين على اختلاف ألوانهم وطوائفهم ولغاتهم على صعيدٍ واحد وفي وقتٍ واحد، يؤكد وحدة الانتماء والمصير؛ فالجميع في النهاية من الله وإلى الله، وبين المنطلق والخواتيم تتجلّى مسيرة الإنسان المسلم وحرصه على مصلحة أخيه المسلم.
هي مسيرة كدح إلى الله لا تتوقف، وهذا ما يعلمنا إياه الحج، في كدح هاجر عليها السلام بين الصفا والمروة، وفي حسن ظن إبراهيم عليه السلام بربه وهو يترك زوجته وابنه إسماعيل في وادٍ غير ذي زرع، ثم في صراعه عليه السلام مع الظلم، حيث لم تثنه قلّة المؤمنين عن تحطيم أصنام المشركين، لتُتوَّج حركته بحجم أمة: ﴿إن إبراهيم كان أمة﴾ (النحل: 120).
إبراهيم عليه السلام يعلّمنا كيف نعيش متمرّدين على كل أشكال الظلم، حتى لو كنا لا نملك أدوات المواجهة، نعم، قد ندفع أثمانًا باهظة، كما دفع هو عليه السلام حين أُلقي في النار، ولكن تكليفنا هو أن نرتقي بأنفسنا قولًا وفعلاً إلى مراتب الشهادة على الناس. قد نسقط، وقد نخسر معركةً أو أكثر، لكن لا يجوز لنا أن نستسلم للظلم، ولا يجوز لنا أن نُلقي بالتكليف جانبًا، فكما لم يتخلَّ نبي عن إحقاق الحق طيلة حياته، فنحن كذلك، والتكليف قائم لا يسقط أبدًا في مواجهة الظلم.
وكما ثبت أن الحج عرفة، وبعرفة يعرف الحاج ربه، علينا أن ندرك أن للعزة عنوانًا واحدًا في عصرنا، وهي غزة، وبوصلتها واحدة، وهي تحرير الأقصى وكل فلسطين.
علينا أن نوقن أن عزتنا في وحدتنا، وأن اختلافاتنا الفقهية والعقدية ضمن الدائرة الكبرى للإسلام هي عامل إثراء للفكر الإسلامي في فهم هذا الدين، وليست سببًا للتنافر.
وأكثر من ذلك، علينا أن نعي جيدًا أن العدو لا يمكنه أن يهزمنا إلا من خلال إثارة تلك الاختلافات. وكما تذوب كل تلك الفوارق في مواسم الحج، عليها أن تذوب من كل حياتنا، لنستعيد عافيتنا ونعيش أعزّاء كأمة.
في كل دولنا أعياد.. وأما في غزة.. فلا عيد ليوسف.
وحسبنا الله ونعم الوكيل.