الحق الفلسطيني: بين قوة المنطق ومنطق القوة

بقلم الشيخ محمد الناوي
في قرآننا الكريم نجد كلامًا لرب العالمين يشير إلى حتمية وقوع التدافع بين البشر لأجل الهيمنة وإثبات الوجود، وبغض النظر عن أسبابه، فإن التاريخ يخبرنا أن هذا التدافع غالبًا مايستند إلى منطق القوة والفتك أكثر من استناده إلى قوة المنطق والحجة والحوار الهادئ.
والأسلوب القرآني الموصي به في قوله تعالى: (وجادلهم بالتي هي أحسن) لا يعني أبدًا مهادنة الباطل أو التنازل عن الثوابت والحقوق.
نعم، حاورهم بثقة وأريحية وذكاء واحترام واقتدار، ولكن يجب أن تكون صاحب الكلمة الفصل التي لا تترك للعدو مجالًا للمناورة، وهذا ما يُعرف بغلبة قوة المنطق.
أما منطق القوة، فلم يغفله القرآن الكريم، كما ورد في قوله تعالى: (وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة)، ولكن ليس بغرض الاعتداء، وإنما لتحقيق الردع، كما قال تعالى: (ترهبون به عدو الله وعدوكم)، أي أن بناء القوة هو تأسيس لمعادلة تردع العدو الذي لا يفهم إلا لغة القوة، فتجعله يُحجم عن الاعتداء لأنه يدرك مسبقًا تبعاته.
إن حضور ثنائية “قوة المنطق” و”منطق القوة” كأدوات للمقاومة في السياسة والميدان أمرٌ ضروري، لأنه عندما ينعدم منطق الحوار المتوازن، يحل محله منطق القوة الغاشم.
قراءة في بيان “قمة فلسطين“
حديثنا هنا عن البيان الختامي الصادر يوم 4 آذار/ مارس المنصرم عن القمة العربية غير العادية بالقاهرة (قمة فلسطين)، والتي عُقدت بعد دخول الأوضاع في غزة مرحلة الهدنة الهشّة، وبعد صمودٍ أسطوري لشعبنا هناك طيلة خمسة عشر شهرًا من حرب الإبادة، رغم نية العدو الجدية في تهجير السكان طوعًا أو كرهًا.
نعلّق بإيجاز على بعض مقررات القمة كما يلي:
تأكيد القمة على حلّ الدولتين وحدود 1967، وتقسيم القدس إلى شرقية وغربية، والاعتراف بجهة فلسطينية معينة كممثل شرعي ووحيد، رغم كونها تتعاون أمنيًا مع العدو، في مقابل الجهة التي قاومت العدوان، هو أمر لا يتماشى مع الواقع الراهن، إذ إن العدو ارتكب جرائم إبادة في غزة والضفة، بل وصرّح مرارًا بأنه لن يسمح بقيام دولة فلسطينية.
في هذا السياق، نشيد ببعض المواقف الرسمية ومنها تونس والعراق، حيث جاء عن تونس:
“إن موقف تونس الرسمي والثابت هو دعم الشعب الفلسطيني في نضاله من أجل استرجاع حقوقه المشروعة وغير القابلة للتصرف، وفي مقدمتها إقامة دولته المستقلة كاملة السيادة على كل أرض فلسطين، وعاصمتها القدس الشريف.”
أما العراق، فقد تحفظ على بعض بنود البيان، حيث جاء في موقفه:
“تُسجّل جمهورية العراق تحفظها على عبارة “حدود 1967″، وعبارة “القدس الشرقية”، وعبارة “حلّ الدولتين”، وأي تعبير يُشير صراحةً أو ضمنًا إلى الكيان الإسرائيلي كـ “دولة”، وذلك حفاظًا على حق العودة للشعب الفلسطيني وإقامة دولته المستقلة وعاصمتها القدس الشريف.”
بين قوة المنطق ومنطق القوة
وبالاطلاع على مجمل ما تقرر في القمة، نجد أنه رغم العبارات الرنّانة حول الحقوق الفلسطينية وإدانة العدو وجرائمه، فإن قوة المنطق لم تكن حاضرة بالشكل المطلوب، إذ كان الأجدر بهذه القمة، بعد كل ما حدث من إبادة وملاحم بطولية، أن تستثمر اللحظة التاريخية للوحدة واستعادة الحقوق المغصوبة، والتي أقرّتها جميع الشرائع، وأن تقطع مع مرحلة الذل والتطبيع، لتكون فرصة لالتحام الحكام مع شعوبهم، وبناء مستقبل يُنهي عقودًا من المتاجرة بالقضية، والركض خلف سراب الحلول، والتوسل على أعتاب المنظمات الدولية التي صنعها الغرب الاستعماري، والتي لا تُنتج سوى دولة فلسطينية ممسوخة المعالم.
نموذج المفاوض المقاوم
لو حضرت قوة المنطق في قمة القاهرة، لكان بالإمكان كبح منطق القوة الذي يعتمد عليه العدو، ولتمكّنت القمة من تعزيز مفاعيل المنطق المقاوِم، كما فعل المفاوض الفلسطيني العنيد، الذي مرّغ أنف العدو في التراب، وجعله عاجزًا عن تحقيق أيٍّ من أهدافه المعلنة في حربه على غزة.
هذا المفاوض المقاوم لم يتخلَّ يومًا عن حقه، بل تسلّح بثنائية “قوة المنطق” و”منطق القوة”، رغم إمكاناته المحدودة والضغوط المفروضة عليه، ليقدّم نموذجًا يُحتذى به في النضال والثبات. ﴿وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ ۚ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ﴾ (الحج: 40).