غزة.. نهاية الإنسانية

بقلم الشيخ محمد الناوي
لقد ولى الزمن الذي تُلتمس فيه الأعذار للصامتين، فقد بلغت القلوب الحناجر، ووجب رفع الصوت عاليًا.
وقد انمحت مساحات الحياد من جغرافية العقل والواقع، وباتت خيانة وتواطؤًا، بل وبمقتضى قوانين السماء والأرض، أصبح الحياد مشاركةً سلبيةً للعدو في حرب الإبادة ضد أهلنا المكلومين في غزة وكل فلسطين.
نحن في مرحلة وجوب الانحياز إلى فسطاط المقهورين والمُنَكَّل بهم في إبادة جماعية ستبقى، على مرّ التاريخ، الأكثرَ بثًّا مباشرًا وتوثيقًا وصمتًا، والأوسعَ من حيث حملات الدعاية التي تبرّر ما يستحيل تبريره، وتشوّه بقبحٍ كبير كلَّ من ينطق بكلمة الحق.
وفي ذلك ما يكفي للإشارة إلى أننا ندخل مقدمات النهاية للإنسانية: في روحها، وعقلها، وغاية وجودها، وحركتها في هذه الحياة؛ هذه النهاية المأساوية التي صُنعت بثنائية التواطؤ والقتل العمد، المسلمون بخذلانهم، والاستكبار العالمي بعدوانه.
وإن من علامات انطماس البصيرة التي تهدّ القلوب أن يعتبر بعضٌ من أبناء جلدتنا أن مقاومة العدو هي سبب هذا الدمار، بمعنى أن مقاومة الظلم قد باتت خطيئة، والخنوع للظالمين بات فضيلة .فبأي دينٍ يتعبد هؤلاء؟ وأي إلهٍ يعبدون؟
سبعة وسبعون عامًا من المعاناة، وثمانية عشر شهرًا من المجازر المتواصلة على مدار الساعة، لم تُحرّك حواضرنا الدينية ولا مجالس الإفتاء.
ليتهم بقوا كـ “الخشب المسندة”، أجسامًا بلا أرواح… ليتهم لم يبرّروا فتاويهم المفصّلة على مقاس أولياء أمورهم، وليتهم التزموا كلمة الحق، وأنزلوا ما يحملونه من علوم تحت عمائمهم إلى ميدان غزة.
في أصول الفقه تعلمنا أن صيغة “النهي” تدل على حرمة الإتيان بالفعل أو كراهيته، وكذلك أن صيغة “الأمر” تدل على اقتضاء الفعل، والنصوص القرآنية والنبوية في النهي عن موالاة الظالمين ووجوب جهادهم ودفع ظلمهم، ثابتة وواضحة الدلالة.
فلماذا التردد في إصدار الفتاوى بالجهاد وقد استوى الموت والحياة في غزة؟
فهل باتت أحزان غزة سرمدية طالما أنهم يُحسنون ضيافتها وهم محتسبون لربهم في أفعالهم وأقوالهم: “اللهم خذ منا حتى ترضى”؟
هل يظن هؤلاء، ممن صمت وتخاذل، ورفض بعضهم فتاوى الجهاد، أنهم سيغيرون ما قدّره الله أزلاً : ﴿كتب الله لأغلبن أنا ورسلي﴾ (المجادلة: 21) ؟
أم هل سيسبقون ربَّ العزة وهو القائل: ﴿ولقد سبقت كلمتنا لعبادنا المرسلين، إنهم لهم المنصورون، وإن جندنا لهم الغالبون﴾ (الصافات: 171–173) ؟
أم أنهم سيقلبون موازين الأفضلية في قوله تعالى: ﴿وفضّل الله المجاهدين على القاعدين أجرًا عظيمًا﴾ (النساء : 95) ؟
لقد قسّم طوفان غزة الأمة إلى فسطاطين: فسطاط المؤمنين وفسطاط المنافقين، تمامًا كما كان الأمر في “أحد”.
وإذا قدّر الله أن تحدث هذه الخيانة في “أحد”، ورسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بين ظهرانيهم، فمن بابٍ أولى أن تحدث هذه الخطيئة في أزمنة أخرى.
ولكن من المؤلم جدًّا أن تقع في زمن غزة، وجرحها ينزف، وهي تدافع عن كل الأمة.
لماذا نلوم الغرب على إسناده للعدو؟
وإلى متى نبقى نيمّم وجوهنا قِبَلَ مجلس أمن (عصابات) وقانون دولي (حبر على ورق) وشرعة حقوق إنسان باتت نكتة؟
وهل يليق هذا بأمةٍ جعلها الله شاهدة على كل الأمم؟
وهل تليق بعض مواقف علمائنا برفعة مقامهم عند الله، وهو القائل:
﴿يرفع الله الذين آمنوا منكم والذين أوتوا العلم درجات﴾ (المجادلة: 11) ؟
ألم يدركوا أن رفعة مقامهم عند ربّ العزة لا ترتبط بمقدار ما حصّلوه من علوم، بقدر ماارتبطت بما رفعوا به مقام الأمة؟
ومن أعظم ذلك: صون الدماء والمقدسات والأوطان.
من المؤلم جدًا أن يُوظّف الأعداء نصوصهم الدينية المحرّفة لقتالنا ظلمًا وعدوانًا، وأن تُستَغل منابرنا الدينية وغيرها لترسيخ ثقافة الاستسلام والخنوع، والإيهام بأنه لا حول لنا ولا قوة أمام جبروت العدو.
إنه “دين ضد الدين”، دينٌ مزيف في مقابل الدين الأصيل.
لذلك نكرنا لفظ “دين” لأن الاستسلام والذل ليسا من الدين، وعرفنا الدين لأن الله تعالى قد عرّفه في قوله: ﴿إن الدين عند الله الإسلام﴾ (آل عمران : 19).
يقيننا في الله بأن غزة إلى نصرٍ عظيم، ولكن… بعد تعرية المنافقين تمامًا، لأن شرف تلك الأرض المقدسة، بأقصاها، لا يتحمّل شائبةً من النفاق لحظة الانتصار.
﴿وسيعلم الذين ظلموا أيّ منقلبٍ ينقلبون﴾ (الشعراء: 227)