مقالات

غزّة والدعوة

قد يبدو الربط بين غزّة والدعوة غريبًا؛ فالمشهد هناك دمارٌ وإبادةٌ وصمودٌ أسطوري، لا منابرَ وخُطب، لكنّ غزّة في زمن الإبادة تعيد سؤال الدعوة إلينا نحن أهلَ القبلة: أيُّ رسالةٍ نحملها، وأيُّ خطابٍ يملأ هذا الفراغ القيمي؟

فدماء الشهداء على أرضها، في ظلّ تحالفٍ صهيونيٍّ غربيٍّ وفّر الغطاء للقتلة وبارك الإبادة، أسقطت ما تبقّى من “منظومةٍ أخلاقية” غربية وخلّفت فراغًا يفرض سؤالاً: من يقدّم ميزانًا جديدًا للحقّ والعدل؟ وهو ما يجعل واجبنا أن نرتقي إلى مستوى تلك الدماء، فنكون امتدادًا لكلمتها في العالم، ويتحوّل كلّ واحدٍ منّا – حيث هو وبما يملك – إلى داعيةٍ للحقّ والعدالة والرحمة والكرامة.

جوهر الرسالة: رحمة للعالَمين

وما نزل الوحي على النبيّ ﷺ إلّا حاملًا إليه رسالة الدعوة، حيث لخّص القرآن جوهر هذه الرسالة في خطابٍ موجّهٍ للبشرية جمعاء: ﴿وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ﴾ (الأنبياء: 107). فلم يكن الإسلام مشروعَ عبادةٍ فرديّةٍ فحسب، بل كان منذ اللحظة الأولى رسالةً دعويّةً عامّةً للعالمين.

الدعوة.. واجبٌ مُضيَّع

ومع ذلك، تعرّض هذا الواجب للتضييع… فتارةً يُحتكر في أيدي قلّةٍ من المختصّين، وتارةً يُزاح من أولويّات الخطاب الديني لصالح الطقوس أو المعارك الهامشية، وتارةً يُستَبدل بخطابٍ طائفيٍّ أو حزبيٍّ يعمّق الانقسام بدل أن يُوصل الهدى.

والسننُ الإلهية لا تعبأ بالشعارات ولا تستجيب للانفعال العابر، بل تتنزّل حيث يكون العمل الصادق: ﴿وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ﴾(فصلت: 33). فالدعوة ليست ترفًا فكريًّا ولا نشاطًا ثانويًّا، بل هي أرقى ما يمكن أن ينطق به الإنسان، وهي واجبٌ ضيّعته الأمّة، فغاب أثرها، وبهت صوتها، وتراجعت رسالتها، حتى بتنا نرى فراغ الساحة أمام رواياتٍ تبرّر الإبادة وتجمّل الظلم.

مسؤوليّة الوفاء لفلسطين

إنّنا – أمام دماء الشهداء الذين ارتقوا على طريق القدس – مسؤولون عن إعادة الاعتبار لهذا الواجب العظيم؛ مسترشدين بقوله تعالى: ﴿وَلْتَكُن مِّنكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ ۚ وَأُولَٰئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ﴾ (آل عمران: 104).

إنّها دعوةٌ إلى الخير، لا إلى عصبيّاتٍ مذهبيّة ولا محدوديّات حزبيّة؛ دعوةٌ مفتوحة للإنسان في كلّ مكان، تضع فلسطين في القلب عنوانًا من عناوين هذا الخير، وشاهدًا حيًّا على المعركة بين حضارةٍ تزعم الأخلاق وهي تبرّر الإبادة، ورسالةٍ إلهيّةٍ تريد للإنسان أن يُكرَّم، لا أن يُباد.

المنسق العام للحملة العالمية للعودة إلى فلسطين
الشيخ يوسف عباس

مقالات ذات صلة

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى