غزة.. أمتنا ودوائر القرار

بقلم الشيخ محمد الناوي
﴿وأورثناكم أرضهم وديارهم وأموالهم وأرضًا لم تطئوها، وكان الله على كل شيء قديرًا﴾ (الأحزاب: 27).
إنّ حركة الإنسان المؤمن، في كلّ تفاصيلها واختلاف ظروفها وتقلباتها، لا تعرف التوقّف ولا الاستسلام للذلّ. نعم، قد تتعثّر بفعل اختلال شرطٍ لا يتوافق مع السنن الكونية الثابتة، أوبفعل الإرادة الإلهية لحكمةٍ يعلمها الله، لكنها تبقى حركة أبدية لاتصالها، في حساباتها، بمن هو أبديّ في ذاته، وهو الله تعالى.
وهذه الحركة، في إطارها العام، إنسانية أممية، انطلاقًا من أممية الرسالة والقدوة، وهو الرسول الخاتم محمد ﷺ، كما بيّن ذلك ربنا تعالى: ﴿وما أرسلناك إلا كافةً للناس بشيرًا ونذيرًا، ولكن أكثر الناس لا يعلمون﴾ (سبأ: 28).
تمرّ الذكرى السابعة والسبعون للنكبة؛ هذه المحطة التاريخية التي حفرت في وجدان أجيالٍ وأجيالٍ معاني القهر والظلم.
كانت النكبة بوابةً لاستعمارٍ من نوعٍ جديد، يُثبّت حقّ الغريب في الاستيلاء على أرض الغير باسم الدين وباسم “الحقّ التاريخي لأرض الأجداد”، بل و”حقّه في التمدّد” ليشمل جغرافيا واسعة في المنطقة العربية، وصولًا إلى بلاد الحرمين.
وبعد مرور هذه المدّة على النكبة، وهذا الخذلان الكبير لما يجري في غزة اليوم من إبادة جماعية، نجد أنّ الأمة كلّها تعاني خطرًا وجوديًا، بعدما بدأت تفقد ملامح (الأمّة) دينيًا وقانونيًا، بسبب تشرذمها، ونجاح الأعداء في تفريق صفوفها عبر النفث الشيطاني في اختلافاتها العرقية والمذهبية.
وأمام “لعبة الكبار”، بما يجسدونه من تجبّر وطغيان كبيرين، وإصرارهم على تصفية القضية المركزية للمسلمين، وفرضهم حصارًا لتجويع أهلنا في غزة في خطوةٍ لإجبارهم على الرحيل من أرضهم، نجد أنّ قمة (لمّ الشمل) الأخيرة قد فشلت في الخروج بقرارات، في حدّها الأدنى، تُلزم العدوّ بإدخال المساعدات الغذائية والطبية إلى القطاع المحاصر والمُدمّر.
إنّ ما يجري على غزة، في الأشهر الأخيرة، من تدمير لكلّ مقوّمات الحياة، وقتلٍ متعمّدٍ للمدنيين، وفي المقابل رهاننا الخاطئ على وعود الأعداء بتخفيف وطأة الحصار، من شأنه أن يدفعنا إلى مراجعة فعلية وواقعية لحساباتنا، إذا كنّا فعلًا أمةً تنتسب لهذا الدين العظيم الذي عايشناه قرونًا عدّة.
علينا أن نقرأ ديننا من جديد، كما يريد ربّنا؛ دينَ العزّة والكرامة. فلن تنال الأمة عزّتها وكرامتها إذا استبدلت بثورية دينها انبطاحًا وتملّقًا للأعداء.
الثورية في ديننا تأتي بمعناها الأنبل: الانتصار لقيم الحقّ والعدل التي تحفظ للإنسانية قدسيتها.
وبما أننا قد جرّبنا العيش بعزّة وكرامة لقرونٍ تحت ظلال هذا الدين العظيم، وجرّبنا كذلك العيش بمَهانةٍ وإذلالٍ في القرن الأخير بعيدًا عنه، فمن الخسران المبين أن نُضيّع وقتنا في الذلّ والاستعباد لقوى الشر.
والحلّ هو أن نعود ونتمسّك بأسباب العزّة والمهابة من ديننا القويم.
لقد بلغنا مرحلة اليقين التامّ بأن السلام والعدالة التي تنشدها الإنسانية جمعاء لن تتحقّق إلا بزوال الاستكبار والتسلّط، ولن تنال البشرية مرادها في السِّلم والطمأنينة ما دام القتلة والمجرمون موجودين، ولن ينال المسلمون ميراثهم الموعود إلا باقتلاع شجرة الخبائث من هذا الوجود.
وبملاحظة ما جرى ويجري، فإنّ غزة ستكون الشاهد على نهاية عصر الظلم والعدوان، وتحديدًا نهاية الحضارة الغربية المتوحّشة، في استفاقةٍ للضمير الإنساني العالمي لم يسبق لها مثيل.
وستكون غزة السبب في تشكّلات دولية جديدة، تضمن – في حدّها الأدنى – تحقق السِّلم والعدل لجميع شعوب العالم.
نعم، قد يطول تحقّق هذه الأمنيات الإنسانية، وقد لا يسلّم المستكبرون بتفوّقهم المادي بسهولة، وقد يجرّون العالم إلى حربٍ كبرى، ولكنّ السنن الكونية أثبتت أن النهايات تكون من نصيب المحقّين.
والأمة الإسلامية ليست استثناءً من هذه السنن. وعلى العلماء المخلصين أن يبذلوا طاقتهم في إعادة ترميم شخصية شعوبهم، وأن يبنوا فيهم المعرفة الصحيحة والاعتزاز بالانتماء لهذا الدين، الذي ما التزم به قومٌ إلا أعزّهم الله وفرض هيبتهم على الجميع.
﴿رَبَّنَا آتِنَا مِن لَّدُنكَ رَحْمَةً وَهَيِّئْ لَنَا مِنْ أَمْرِنَا رَشَدًا﴾ (الكهف: 10).