القدس ومشهد الانتصار
مَن ينظر إلى المشهد الفلسطيني اليوم يرى أنّ العدو الصهيوني يحاول جاهدًا محاصرة الفلسطينيين من كل جانب، اقتصاديًا وأمنيًا واجتماعيًا، وأن يجعلهم في شغل يصرفهم عن التفكير في الاحتلال، فضلًا عن التفرغ لمقاومته أو محاولة ذلك أصلًا.
ومن ذلك إصراره على تنفيذ إجراءات الهدم بحق البيوت والأحياء الفلسطينية التي يدّعي مخالفتها للأنظمة التي فرضها الاحتلال على مقاس مخططاته للاستيلاء على الأراضي الفلسطينية.
ويدخل في ذلك نظام تصاريح العمل التي يمنحها للفلسطينيين الذين يبجثون عن لقمة عيش لعيالهم، واستغلال العدو هذه التصاريح لإذلال الفلسطيني ومعاقبته، إن لم يقبل التهاون والعمالة.
ولا ننسى إجراءات القتل والاعتقال التي لا نظير لها في كل دول العالم، ناهيك عن أنظمة التعليم والطبابة والسفر والبناء وغيرها من نواحي الحياة، التي يعمل العدو يوميًا على جعلها نارًا كاوية تحرق الفلسطيني وتدفعه إما للهرب أو الاستسلام.
ولكن الحقيقة أنّ هذا المشهد بجوانبه التي ذكرناها والتي لم نذكرها هو مشهدٌ قديم، وضع الانتداب البريطاني بذوره الأولى، وتابع الكيان الغاصب العمل عليها دون تهاود، فماذا كانت النتيجة بعد أكثر من سبعة عقود من هذه الجرائم المستمرة ؟
يمكن تلخيص مشهد الإجابة في نقاط عدّة، تستحق كل واحدة منها التوقف عندها والتأمل فيها:
1- الكيان وهاجس الإزالة أو الزوال: على جانبي الصراع الطويل حديث واحد، يعبّر عنه كل طرف بلغته ومصطلحاته، وهو لدى الصهيوني الخوف من زوال الكيان الغاصب في أمدٍ ليس بعيدًا، كما يظهر في عقدة الثمانين عامًا التي تحدث عنها العديد من قادة الكيان والإعلاميين فيه.
أمّا لدى الفلسطيني فنجد الأمل، بل اليقين بإزالة الاحتلال، ربطًا بعوامل مختلفة وتواريخ متباينة، لا يهمّنا تأكيدها أو نفيها، لأنها جميعاً تُثبت فكرة واحدة هي التمسك بفكرة استحالة استمرار هذا الكيان، وأنه كيان غاصب مؤقت مهما طال الزمان.
2- الكيان بين القوة والمقاومة: رغم اختلال موازين القوى كلها لصالح الكيان الغاصب، ومحاصرته الصارمة للشعب الفلسطيني على مدى عقود، يجد الكيان نفسه عاجزًا عن ضبط الأمور دون اللجوء إلى الاستخدام الدائم والمفرط للقوة العسكرية، ومتابعة إهدار الدم الفلسطيني من أجل تثبيت وجود الكيان الغاصب كدولة.
وفي المقابل نجد قدسية الفعل المقاوم لدى الفلسطيني؛ أطفالًا ونساء وشبابًا وشيوخًا، في الداخل وفي الشتات.
وبين القوة الظالمة والمقاومة الشريفة يسقط كل احتمال لإمكانية استمرار القوة في قدرتها على كبت المظلوم، أو حمله على التنازل عن حقوقه، لأنّ العنف الظالم نارٌ تأكل وقودها، وكلما استعر لهيبها كلما تقارب فناؤها، وهي تدمّر صاحبها قبل إحراقها لغيره.
3- الكيان وهوية الأرض: يقاتل الكيان الغاصب على جبهات عديدة لانتزاع الاعتراف بهوية صهيونية لأرض فلسطين، وفي هذا السياق يأتي مشروع التطبيع الذي انتصر في الحصول على إقرار بهذه الهوية المختلقة من أطراف بعيدة عن الأرض، ولا تربطها بها أية صلة !
وفي هذا السياق أيضًا تندرج محاولاته المحمومة للسيطرة على المسجد الأقصى، ولذلك قلنا سابقًا أن محاولات الاقتحام ورفع العلم الصهيوني سوف تستمر وتتصاعد.
ولكن التطبيع غثاء، بل هو دليلٌ فشل الصهيوني في القلب والمركز، في فلسطين؛ مما حمله على الاندفاع نحو تلك الأطراف للتعويض، وخلق حلقة جديدة من الضغط حول الفلسطيني.
كما تظهر المواجهات المستمرة في القدس وغيرها إصرار الفلسطيني على التمسك بأرضه، وعدم منح الاعتراف للصهيوني الغاصب أبدًا.
هذه بضع نقاط يسيرة، بمقدار ما تسمح به هذه المقدمة، تؤكد كلها أن المشهد الذي يحاول أن يرسمه الصهيوني، والذي ينسج خيوطه لكي تلتف حول رقبة الفلسطيني وتقتل إرادته وأحلامه والحب الذي يحمله لأرضه وقضيته؛ كل ذلك سيتحول إلى هباء منثور، وسينقلب السحر على الساحر، ولن تنفعه قوته ولا أمواله: (فَسَيُنفِقُونَهَا ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ) الأنفال 36.
محمد أديب ياسرجي
أمين سر الملتقى العلمائي العالمي من أجل فلسطين