معية التكليف والاستمرارية في خط الأنبياء والصالحين
بقلم الشيخ محمد الناوي
قال تعالى: ﴿لَٰكِنِ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ جَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ وَأُولَٰئِكَ لَهُمُ الْخَيْرَاتُ وَأُولَٰئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ﴾.
إن القليل من التركيز في عظمة الخَلق، كل ما خلق الله، يجعل الانسان العاقل يدرك يقيناً أنه خُلق لرسالة، خُلق ليعمل، وخُلق ليبدع وليضيف أقصى ما يمكن لاستقامة حياة البشرية.
وللأسف، الإنسان في حركة التاريخ الطويل كرس تمرداً على خالقه وجعل من نفسه ومن تحالفاته وإمكاناته المادية وسيلة لتجاوز حدوده تجاه خالقه، وللظلم والطغيان في الكون.
إن البشرية في كل تاريخها عاشت حالة التمايز في عواطفها، في أفكارها، في أهدافها، وفي وسائلها، وهذا ما كان يؤدي وسيبقى كذلك، إلى حالات التصادم فيما بينها وهي ما يعبر عنها قرآنيا بلفظ: (التدافع).
ولعل السبب لهذا الصراع هو بالأساس اختلاف النظرة الى الحياة والكون.
فهناك فريق يرى في القوة المادية والمال والجاه مصدراً لبقائه وتفوقه وهيمنته على العالم، وفريق آخر يقول لنا التاريخ: إنه كان دوماً الأضعف مادياً والأقل ناصراً، ولكنه كان يسعى جاهداً ليراكم القوة عنده مادياً ومعنوياً، وهو يرى في ربه مصدراً أساسياً للقوة بما يحمله من عقيدة راسخة.
الفريق الأول؛ يحدثنا عنه القرآن والتاريخ أنه كان لا يعير أي اهتمام لمفاهيم الإنسانية والعدالة، ويرى أن الأساس عنده هو تحقيق مصالحه والحفاظ عليها، فهو ولأجل تثبيت تفوقه يمنح الحياة أو يعدمها لمن يشاء، وهو من يطعم ويجوّع من يشاء، والغاية عنده تبرر الوسيلة.
أما الفريق الآخر؛ فيسعى لتحقيق العدالة ومدّ جسور التعارف بين البشر بهدف تحقيق حياة أفضل للجميع.
وبين هؤلاء وهؤلاء تناقض واضح بلغة المنطق، ولذلك كان التعبير القرآني بلفظ (التدافع) تعبيراً دقيقاً، إذ لا يمكن للفريقين أن يجتمعا – (بأن تجتمع الصفتان في فريق واحد)، ولا أن يرتفعا ( بمعنى أن لا يتلبس أحد الفريقين بواحدة منهما)؛ وفي التدافع تكمن أسرار الحياة لأنه يكشف عن طينة البشر كشفاً بيّناً.
ومن هنا سعى الفريق الأول إلى سفك الدماء ظلماً وعدواناً، بينما سعى الفريق الثاني إلى بذل الدماء إحقاقاً للحق.
هذه الآية القرآنية التي افتتحت بها هذه السطور تشير بوضوح إلى ديمومة حالة الاستثناء في حركة الإنسان من خلال لفظ (معه)، الذي يفيد معية الاستمرار والدوام ومعية التكليف في خط الأنبياء وفي خط الشهادة على الخلق وخط الثبات والاستقامة على منهج السماء.
ولذلك، يجب أن ندرك أن الإنسان منذ كُلف، يعيش حال الاختبار في كل مرحلة وخصوصاً في المراحل الفاصلة التي تتمايز فيها الصفوف تمايزاً بيَناً بسبب قساوة الظروف ليدرك ثمرة الصبر والبذل، وأن العطاء الإلهي لا يعطى لخليط وإنما لخاصة عباده.
إنه حقيقة عام الحزن بفقد عشرات الآلاف من أهلنا في غزة ولبنان وفقد الناصر من الشهداء القادة الشبيه بعام حزن المصطفى صلى الله عليه وسلم، ونسأل الله تعالى كما منَّ على الحبيب المصطفى صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم بإسراء ومعراج، أن يمنَّ على المؤمنين المجاهدين وعلى الأمة الاسلامية بنصر وتحرير لبيت المقدس وكل فلسطين.
إن غزة ولبنان اليوم يمثلان الاختبار الحقيقي لكل إنسان، وإن جهاد هؤلاء وصبرهم وصمودهم ومواقف كل من يساندهم لهو الحجة البالغة علينا جميعاً؛ نسأل الله لهم الفرج العاجل والنصر الكبير، ﴿والعاقبة للمتقين﴾.