ليس النصر منوطاً بالعدد وترتيبات القادة فحسب
الأستاذ الدكتور الشيخ علاء الدين زعتري
فبعد أن عشنا دهراً نسمع عن اللاءات المشهورة: لا اعتراف، لا تفاوض، لا صلح، لا تفريط في شبر، ولا في حبة رمل من الأرض، ولا تنازل عن: عودة اللاجئين، ولا عن إعادة القدس وكامل فلسطين.
أصبحنا نسمع ـ باسم الواقعية، والعقلانية، والمصلحة الوطنية تارة، والإقليمية تارة أخرى ـ عن طروحات وشعارات في شكل (لاءات):
لا بديل عن السلام كخيار استراتيجي، لا جدوى من المقاومة، لا سبيل إلا مائدة التفاوض، لا أوراق إلا بيد أمريكا، لا لعسكرة الانتفاضة، لا فرار من حتمية التطبيع.
ولكن (طوفان الأقصى) ألغى اللاءات المزيفة، وحمل معه انتصار (غزة) الأبية؛ رغم الجراحات القروح، ومع كثرة الدماء وشلالها المتدفق؛ حيث تقرحت أكباد الصالحين وشرفاء العالم كمدًا مما يجرى في الأرض المباركة؛ فمنظر (الأطفال) وكلٌّ يلفظ روحه الطاهرة البريئة، وتسيل دماؤه ستبقى شاهدًا على تفرج عالم بأكمله على مأساة لا تصدق.
وكلما ضاقت الحلقات واشتدت الأمور واحلولكت الظلمة قرب الفرج، واقتربت روح الفجر المشرق، وعلو كلمة الحق في أرض الواقع، فأشد اللحظات ظلمة في الليل هي الأقرب إلى طلوع الفجر الصادق، قال الله تعالى: {إِذْ جَاءُوكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَإِذْ زَاغَتِ الأَبْصَارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا * هُنَالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزَالًا شَدِيدًا * وَإِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ إِلَّا غُرُورًا} [الأحزاب: 10 – 12].
وما زال يقين المؤمنين كما عبَّر عنه القرآن الكريم: {وَلَمَّا رَأَى الْمُؤْمِنُونَ الأَحْزَابَ قَالُوا هَذَا مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ} [الأحزاب: 22] أي: لينصرن الله عزَّ وجلَّ أولياءه؛ مهما قَلَّ عددهم؛ ما داموا قد حافظوا على إيمانهم الذي هو ميراث الحق لأمة حبيبه صلى الله عليه وآله وسلم.
نعم، إنه وفي كل يوم، بل وفي كل ساعة لا يدري أحدنا ماذا يقول وبماذا يبدأ، والمجازر الدموية تتعدى الوحشية والعالم يتفرج، وكأن الأمر لا يعنيه.
إلا أن حالة الشجاعة لدى أبناء المقاومة، والصمود الأسطوري للشعب الفلسطيني الأبي؛ يُعَلِّم العالم دروساً وعبراً تُكتب بحروف النور، وتُسطَّر في ذاكرة التاريخ، دروسٌ مستفادة من عزة البطولة، غزة هاشم الشموخ، وعبرٌ من الإباء والصمود، منها:
أن الوحش الكاسر مهما بلغت قوته، وتعاظم تسلطه؛ فليس من الصعب هزيمته، وكسر أنفه، وتمريغ وجهه في التراب، فالقرآن يخبرنا بنصر المؤمنين بإذنه تبارك وتعالى: {فَهَزَمُوهُم بِإِذْنِ اللَّهِ}.
والفاء هنا للسببية، أي أنه بسبب قوة عزائم الأبطال، وجميل صبر الشعب، وتوجه المؤمنين إلى ربهم ضارعين: أن يلهم المقاتلين الصبر عند اللقاء، ويُفرغ الصبر والثبات لدى أصحاب الحق، والدعم من أحرار العالم.
والنصر في النهاية للمستضعفين المؤمنين؛ لأنه سبحانه هو المالك لكل شيء، فبتوفيقه سبحانه وبإمدادهم بعونه بعد اتخاذهم الأسباب كلها؛ يتحقق النصر المبين.
وأصل الهزم: الكسر، ويستعمل في كسر الأعداء، وتشتيت شملهم؛ وذلك لأن العدو في هجومه يشبه الصخرة المنقضة، فإذا ردَّه المجاهدون على أعقابه؛ تكون حاله كالتكسر بعد الاجتماع، والتقطع بعد الاتصال.
انتصرت (غزة) حين هدم الصهاينة مساكنَها فافترش الناس الهواء، وجعلوه لهم سكناً وكساءً وغطاءً.
وانتصرت (غزة) حين جففت جراحها، ولملمت أعضاء قتلاها، ودفنتهم في أرضها هي، ليكونوا شواهد عزة وكرامة لها وللإنسانية جمعاء، وكأنّي بها تنادي: انظروا قد أضأنا لكم اليوم أنواراً، فسيروا على دربها.
قال أمير المؤمنين أسد الله الغالب الإمام علي بن أبي طالب رضي الله عنه: (إن الموت طالب حثيث لا يعجزه المقيم ولا يفوته الهارب، وإن لم تقتلوا تموتوا وإن أشرف الموت القتل) [دُرَرُ الحِكَمِ لأبي منصور الثعالبي، ص 40].
فاستمرار الانتصارات باعث للأمل في الأمة، وإن التفاؤل بالنصر هو مقدمة النصر، والقوة المعنوية في كل أمة هي التي تدفع أبناءها إلى تحقيق مزيد من الانتصار.