مقالات

أكبر من الاعتقال

يقول بعض المتفكّرين في دلالات قوله تعالى: (وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَني آدَمَ): إنَّ الله تعالى جعل الشعور بالكرامة أصيلاً في الإنسان بمستوى أصالة إنسانيته، فلا يتخلّى عن الكرامة إلا من أبى إكرام الله للإنسان وتفضيلَه له على سائر الأجناس المعروفة.

ويقولون: كلما ارتقت عناية الإنسان بإنسانيته كلما ارتفع مقدار شعوره بالكرامة، بحيث لا يُقدّم عليها أيَّ شيء آخر، ولا يبذلها ولو في مقابل حياته، ولا يتأثّر شعوره بها بأحواله الظاهرية، ولا بتقدير الآخرين لهذه الكرامة، لأنَّ معرفته بها نابعةٌ من داخله وفطرته؛ حتى إنّ اعتزازه بكرامته يرتفع كلما حاول الآخرون أن ينالوا منها؛ وهذا ما نراه في الأبطال والأحرار من سائر الأمم، إذا وقع أحدهم في أسر أعدائه الظالمين، فعندها تجده أكثرَ ما يكون شرفاً وإباءً وكرامة، وكأنّه يجمع في شخصه كرامةَ أمّته كلّها، فلا يتنازل للعدو وإن وقع عليه العذاب الشديد، صيانةً لشرف أمّته، ولا ينكسر للظالم رعايةً لجانب شعبه، وإن كان ذلك يقوده إلى الهلاك !

وأسرى فلسطين من النساء والرجال الذين يعتقلهم الاحتلال الصهيوني أنموذج ناصع البيان لهؤلاء الشرفاء الأبطال، الذين لا يزيدهم عنف العدو وظلمه إلا تمسكاً بكرامتهم وكرامة أمتهم، ولا تزعزعهم المواقف الصعبة عن مواقعهم المتقدمة في الكفاح لأجل حرية شعبهم، ولا يؤثر السجن والاعتقال في إقدامهم وجرأتهم في المضيِّ لأجل تحرير ارضهم واستعادة حقوقهم.

ولذلك تكاد لا تنقطع أبداً حملات الإضراب عن الطعام التي يخوضها أبطال فلسطين في مواجهة السجن والاعتقال، لأنَّ الحرية والكرامة تساوي الحياة، ولا معنى للأكل والشرب إذا كانت اللقمة مغموسة بطعم الذل والهوان.

في هذا الأسبوع تحضرنا أسماء كثير، مثل المناضلة العظيمة إسراء الجعابيص المريضة والمعتقلة منذ 6 سنوات،والأسير البطل الغضنفر أبو عطوان الذي يخوض مع عدد من رفاقه معركة الإضراب عن الطعام منذ 50 يوماً، وخاله الأسير القائد منيف أبو عطوان المعتقل منذ عام 2002، إضافة إلى إحصائية تؤكد قيام الاحتلال باعتقال ما يقارب 170 طفلاً فلسطينياً لفترات مختلفة في القدس خلال الشهر الماضي.

كما يبرز الإضراب المفتوح الذي أعلنه القائد الشيخ خضر عدنان منذ اعتقاله قبل 25 يوماً، والذي وردت الأخبار يوم أمس بأنّه سوف يتمّ تعليقه بعد رضوخ الاحتلال لمطالب الإفراج عنه.

إنَّ سجّل هذه الأسماء ومسيرة غيرهم من أبطال فلسطين تُظهر أنّهم من الزوار الدائمين لسجون الاحتلال، فلا يكاد يخرج أحدهم من المعتقل حتى يبادر العدو إلى اعتقاله مرة أخرى عند أقلّ حركةٍ يقوم بها الفلسطيني، ولو كانت زيارة اجتماعية للتعزية بفقيد أو شهيد، كما حصل مع الشيخ خضر عدنان منذ أقل من شهر.

ففي كل مرة يراهن الاحتلال على كَسْر إرادة هؤلاء الأبطال، وعلى ترهيبهم من أجل أن يهابوا السجن فيتخلَّوا عن مسيرة النضال والكفاح، ولكنهم سريعاً ما يُثبتون من خلال المواقف قبل الكلمات أّنهم لا يزدادون في كل يوم وعند كل مرحلة إلا مضاءً وعزيمةً وثباتاً وإقداماً في التصدي لإرهاب الاحتلال والدفاع عن قضيتهم والمطالبة بحقوق شعبهم وتحرير أرضهم.

في كل مرة يُثبت الأطفال والنساء والشباب والرجال أنهم أكبر من أي اعتقال، وأنَّ المستعد للتضحية بروحه ودمه من أجل وطنه تهون عليه التضحية بما دون ذلك، وأنّ السجن مجرد محطةٌ في مسيرتهم المتواصلة نحو الحرية الكاملة.

في كل مرة تقف الكلمات عاجزة لا تستطيع التعبير عن جلال الموقف الذي يقفه هؤلاء الأبطال، وتنحني القلوب قبل الهامات اعترافاً بفضلهم وشجاعتهم، وتقديراً لتضحياتهم ونُبل نفوسهم وشرف مكانتهم.

في كل مرة تؤكد فلسطين من خلال أبطالها أنّها ستبقى فلسطين، ولن تكون إلا فلسطين، وأنّ الاحتلال إلى زوال، والله المستعان.

بقلم محمد أديب ياسرجي
أمين سر الملتقى العلمائي العالمي من أجل فلسطين

مقالات ذات صلة

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى