أيُّ اعتراف وأيُّ سلام
ممّا لا شك فيه أنّ الشعب الفلسطيني، وفي الصفّ الأول منه هذه الأيام أهل غزة، قد أعادوا فلسطين إلى صدارة المشهد الدولي، وحرّكوا الماء الآسن الذي غرقت فيه مبادئ العدالة وحقوق الإنسان والكرامة البشرية، بفضل الشراكة الغربية الكاملة مع الكيان الصهيوني.
لقد أزعج هذا التحريك كثيراً من الأنوف التي تعودت على روائح الحفلات الديبلوماسية، وعلى مؤتمرات المناخ ومواجهة الاحتباس الحراري، ووجد أصحابها أنفسهم أمام مشاهد لا يمكن الفرار منها، بما فيها من قتل ووحشية لا تعبّر عنها الكلمات مهما كانت قاسية.
لا نتهم الجميع بسوء النية، لكنك لا يمكن أن تكون ساذجاً لدرجة تصديق أن الإدارة الأمريكية تريد السلام في غزة أو للشعب الفلسطيني، أو أن تصدّق أن كلمات الرئيس الأمريكي تعني حقاً أنّه يغرّد بعيداً عن المصلحة الصهيونية الصرفة، كما صدّق بعض الغافلين وهلّلوا للكذبة التي زعمت أنّ الولايات المتحدة تفكر في وقف تصدير بعض الأسلحة إلى الكيان الغاصب، وإذ بهذه الأسلحة تصل بعد أيام (بسلام) إلى الكيان وتأخذ طريقها إلى غزة دون ضجيج، وربما كان بعضها يلقى على الأطفال والأبرياء في نفس الوقت الذي كان فيه الرئيس الأمريكي يدلي بتصريحه المعجزة عن تصوره لوقف إطلاق النار.
وليس موضوع اعتراف بعض الدول الأوربية بما يسمونه (دولة فلسطين) بعيداً عن مشروع السلام الأمريكي، وأبسط الأدلة على ذلك يكمن في طلب جواب عن حدود هذه الدولة المزعومة، فهل هي حدود قرار التقسيم عام 1947 الذي أعطى الصهاينة أكثر من 55% من أراضي فلسطين، في الوقت الذي لم يكن يسيطرون فيه إلا على أقل من 6% من الأراضي رغم كل تواطؤ الاحتلال البريطاني معهم !
أم هي حدود 1948 التي أخذت من الفلسطينيين 78% من أراضيهم بالقتل والمذابح والتهجير والإبادة الجماعية ؟
أم هي حدود المناطق التي نصّت عليها اتفاقية أوسلو ؟! أم حدود الجدار الفاصل والمستوطنات التي تخترق الضفة وتجعلها كقطعة الجبن المنخورة بالديدان والمليئة بالفقاعات ؟
لا أحد من هذه الدول يملك جواباً على هذا السؤال، ولا يستطيع أن يفكر فعلاً بجواب واقعي له !
لا نريد أن نبخس هذه الاعترافات قيمتها، إن كانت صادقة، لكن الصدق وحده لا يكفي، لابد من واقعية منطقية، ولا يمكن أن يكون أي قرار واقعياً ما لم يحترم مبادئ العدالة، وما لم يحترم أيضاً دماء عشرات الآلاف من الشهداء، وما لم يكن حازماً في معاقبة المجرمين.
نعم. لا يمكن أبداً أن تكون مكافأة هذا المجرم بتقديم الشكر له على أنّه توقف أخيراً عن القتل والتدمير، بعد أن جعل غزة كلها مكاناً غير صالح للحياة، باعتراف المنظمات الأممية !
إنَّ الطلب الذي قدّمه المدعي العام لمحكمة الجنايات الدولية لإصدار قرار بتوقيف 3 شخصيات وطنية فلسطينية في مقابل اثنين فقط من قادة الكيان الغاصب، هو نموذج عن تلك القرارات المستقبلية التي يمكن أن تتفضل بها علينا الشرعية الدولية، ونموذج عن العدالة الموهومة التي يمكن أن يحققها النظام الغربي الرأسمالي المتوحش؛ وهل يمكن لهذا الغول القاتل أن يعضّ يده التي يفتك بها حيث يريد ومتى يشاء ؟
إنَّ الكيان الصهيوني أداةٌ ليس إلا، والمجرم الأصلي موجود هناك، وهو الذي اخترع هذا المسخ وزرعه في أرضنا، وهو الذي كان ولا زال يمدّه بكل أسباب البقاء والسيطرة، اقتصادياً وسياسياً وعسكرياً وعلمياً ومن كل النواحي، ومن يفعل ذلك فلا تتوقع منه سلاماً ولا اعترافاً بحقوقك، ولا تبحث عن ذلك إلا مما زرعته يداك.
بقلم الشيخ محمد أديب ياسرجي
أمين سر الملتقى العلمائي العالمي من أجل فلسطين