مقالات

فلسطين الشهيدة

ولستُ أعني بالشهيدة هنا المقتولة في سبيل الله، وإن كانت فلسطين لا تزال تُقتل في سبيل الله كلَّ يوم، ولكني أعني الشاهدة الصادقة التي تَدين الظالمين وترفع مِقدار الأبرار، وهو المعنى الذي جاء به القرآن الكريم في مثل قوله تعالى: ﴿إِنَّ اللهَ لَا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ وَإِن تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا وَيُؤْتِ مِن لَّدُنْهُ أَجْرًا عَظِيمًا (*) فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِن كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَىٰ هَٰؤُلَاءِ شَهِيدًا (*) يَوْمَئِذٍ يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَعَصَوُا الرَّسُولَ لَوْ تُسَوَّىٰ بِهِمُ الْأَرْضُ وَلَا يَكْتُمُونَ اللَّهَ حَدِيثًا﴾.

وقوله سبحانه مِن قائل: ﴿وَكَذَٰلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِّتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا﴾.

وشهادةُ فلسطين اليوم مستحقةٌ على أصناف وأصناف من هذه الأمة، ومن سائر البشرية أيضاً، فبها يرفع الله أقواماً ويضع آخرين.

شهادة فلسطين على أناس، بل وعلى علماء من المسلمين، يزعمون أنّ فلسطين قضيتهم الأولى، وأنّهم ينظرون إليها نظرة إيمانية، ويعتبرونها مسألة مقدّسة، وأنّ تحريرها واجب شرعيّ، وفَرض عين على المسلمين !

يقولون هذا ثم ترى بأسهم وحربهم على إخوانهم في الدّين فحسْب، وليس على عدوّهم الذي احتلّ ارضهم، ويزعم زاعمهم أنّ أتباع هذا المذهب أو تلك الفئة من المسلمين أشدّ خطراً على الإسلام من الصهاينة المجرمين، ﴿وَأَنتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ أَفَلَا تَعْقِلُونَ﴾ !

وشهادة فلسطين على حكّام وزعماء زعموا أن فلسطين قضية وطنية، وأنّ احتلالها وما يجري فيها خطر على الأمن القومي، وأنّ هذا الكيان تهديد للمصالح الوطنية !

يقولون هذا ثمّ يسكتون، فلا فعلاً ترى ولا مبادرة حقيقية لرفع الظلم عن إخوانهم، بل يساهمون في الحصار، بل ويطبّعون مع العدوّ ويمدّونه بالغذاء والمعلومات والسلاح، ﴿وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ قَالُوا إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ (*) أَلَا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَلَٰكِن لَّا يَشْعُرُونَ﴾.

شهادة فلسطين على حكّام العالم، وعلى ما يسمى المجتمع الدولي؛ على منظّماته الحقوقية ومجلس الأمن والجمعية العامة ومحكمة العدل ومجلس حقوق الإنسان وسائر تلك العناوين البرّاقة التي لا تعدو الوهم والخيال، ﴿كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاءً حَتَّىٰ إِذَا جَاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئًا﴾؛ فلا ينخدعنّ إنسان بشعارات القانون الدولي، ولا حقوق الإنسان، ولا السلم والأمن العالمي، فما هي إلا أصنام، يستعبدون بها من يشاؤون، وتسقط كلها عند أقدام الصهيونية ومن يقف وراءها.

شهادة فلسطين على ثلةٍ من الغيارى والشرفاء، الذين رأوا ما ينزل بإخوانهم في فلسطين، فقاموا بمحضّ الفتوة لا يسألون عن فتوى، وأسرعوا بمقتضى الشهامة لا ينتظرون مدداً ولا سلاحاً، وهم يرقبون الله وحده ويستجيبون لرسوله المصطفى (ص) وهو يقول: (مَنْ أصبحَ لا يهتمُّ بأمرِ المسلمينَ فليس منهمْ، ومَنْ سمعَ رجلاً ينادي: “يا لِلمسلمين”، فلم يُجبْهُ فليسَ بمُسلم).

وشهادة فلسطين على رجال أشداء على الظالمين، رحماء بشعبهم وبلادهم، أعدّوا لعدوّهم ما استطاعوا من العلم والمعرفة والسلاح البسيط، ونهضوا بعد تخطيط وبصيرة، يبادرون العدوّ قبل أن يدخل عليهم ديارهم، ويسارعون إلى مناهضته وقد علموا ما بيّت لهم من الشرّ والقتل، بعد أن أوجعهم بالسجن والحصار.

وكان من ورائهم شعب عظيم، صغاره أبطال فضلاً عن شبابه وشيوخه، ونساؤه شوامخ بَلْهَ رجالهَ؛ ﴿فَمَا وَهَنُوا لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللهِ وَمَا ضَعُفُوا وَمَا اسْتَكَانُوا وَاللهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ (*) وَمَا كَانَ قَوْلَهُمْ إِلَّا أَن قَالُوا رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَإِسْرَافَنَا فِي أَمْرِنَا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ﴾، ولم يتنازلوا ولم يتراجعوا، رغم كل الوحشية والدمار، والإبادة الجماعية التي تجري – لا بصمت العالم وعجزه – بل بتواطؤه ومساعدته.

شهادة فلسطين على هؤلاء جميعاً، وكلنا يعرف من هو الذليل بعد هذه الشهادة ومن هو العزيز.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى